في النهاية لا يصح إلا الصحيح. ما كان يمكن لهذه الضجة الشعبوية المفتعلة حول ما يدعى بالربيع العربي أن تستمر إلى الأبد. كان ينبغي أن تسقط في أرضها ومعقلها، أي في تونس بالذات، لكي ينقشع الغبار والدخان. لقد دمرت جماعة الاخوان المسلمين التونسية بقيادة راشد الغنوشي خلال 10 سنوات فقط كل ما بنته تونس من انجازات حضارية على مدار 65 سنة متواصلة.
بقلم الدكتور هاشم صالح *
معلوم أن تونس كانت في طليعة بلدان العرب علما وثقافة وحضارة. كانت تمثل الوجه الأنواري المشرق للعرب طيلة عقود متواصلة. هذا ما يقوله لنا أحد كبار العارفين العرب بالاستشراف والجغرافيا السياسية المفكر التونسي المازري الحداد في كتاب صدر له بباريس سنة 2011. ومعلوم أنه كان قد استبق على الأحداث منذ البداية وقال لنا وللعالم أجمع بأن هذا الربيع العربي المزعوم الذي آمنا به جل المفكرين العرب ومن أبرزهم محمد حسنين هيكل وهشام جعيط ومحمد شحرور سوف يتحول الى خريف أصولي أو حتى الى شتاء قارس وسوف تدفع الشعوب الثمن باهظا. وربما ندمت ندما مرا على سيرها كالقطعان وراء هذه الجماعات التي أوهمتها بأن “الربيع الاخونجي” هو الحل. ولكن سرعان ما اكتشفنا انه هو المشكلة وليس الحل سواء كان في تونس أو في مصر أو في ليبيا أو في اليمن او في سوريا. فقد دمر البلاد والعباد وزرع الفتن والانقسامات الفئوية والطائفية بين أبناء الشعب الواحد. وألهانا بقضايا ثانوية سخيفة تعود إلى القرون الوسطى وأعادنا خطوات إلى الوراء.
نعم للإسلام الحضاري المستنير لا للإسلام الاخواني المتخلف
نعم للإسلام الحضاري المستنير ولكن لا للإسلام الاخواني المتخلف عن ركب الحضارة والعصر. هذا ما استخلصناه بعد كل تلك التجارب المريرة التي دفعنا ثمنها غاليا على مدار عشر سنوات. ولكن لماذا نلوم الشعوب اذا كان ما يدعى بالمثقفين أو أشباه المثقفين هم أول من انبطح أمام جماعة الاخوان المسلمين؟ جماهيرنا الأمية الفقيرة الجائعة معذورة أما هؤلاء؟ أليس انبطاح شخص مثل المنصف المرزوقي أمام الغنوشي وجماعته أكبر دليل على مدى خيانة المثقف لمهمته ورسالته في الحياة؟ وهو شخص يدعي الحداثة الفكرية والسياسية بل ويتشدق باسم حقوق الإنسان ليلا نهارا فقط.. ولكنه ليس الوحيد. هناك كثيرون من أمثاله في قلب باريس انتقل من أستاذ جامعي الى رئيس “المجلس الوطني السوري” الذي أسس بالعاصمة التركية أنقرة بوصاية قطرية! هذا المثقف هو ما يدعى اصطلاحا “بالأبله المفيد”: أي المفيد لقضية ليست قضيته بل ومضادة لقضيته. انه مفيد للقضية الرجعية الظلامية، لا للقضية التنويرية التقدمية.
لقد آن الأوان لأن تقال الأشياء، لأن توضع النقاط على الحروف. وذلك لأن البوصلة ضاعت والناس تخربطت أو تشوشت بسبب خيانات النخب. وأكبر مهزلة هو أن هذه الجماعة المتزمتة المتاجرة بالدين اغتصبت اسما ليس لها بل ومضادا لها تماما هو: النهضة! هنا تكمن فذلكة انتهازية سوفسطائية عجيبة الشكل. هنا تكمن مغالطة غير مسبوقة.
كلمة النهضة من أرقى ما يكون. كلمة النهضة تعني الأنوار العربية المشعة على العالم. وبالتالي فهي مضادة لجميع الحركات المتزمتة وفي طليعتها جماعة الاخوان المسلمين. بل ان البعض ومن أبرزهم الدكتور المازري الحداد يعتبر الاخوان المسلمين بمثابة آخر حركة توتاليتارية فاشية في العالم بعد سقوط النازية والشيوعية. عندما يحصل تنوير حقيقي داخل الحركة الأصولية التونسية والعربية عندئذ يحق لهم أن يستخدموا كلمة: نهضة! عندما يحصل نقد جذري للظلامية الدينية، ظلامية حسن البنا وسيد قطب و يوسف القرضاوي وسواهم، عندئذ يصبح استخدام كلمة النهضة مبررا ومشروعا.
كيف تمت “فبركة” الربيع العربي في الغرف المظلمة
كان المازري الحداد قد أصدر كتابا مشهورا منذ بداية الأحداث عام 2011 باسم: “الوجه المخفي للثورة التونسية. الأصولية والغرب. تحالف انفجاري شديد الخطورة”. وفيه يكشف الغطاء عن الوجه المخفي للانتفاضات وكواليسها ودهاليزها ويقوم بعملية تشخيص وتشريح حقيقية “للربيع العربي” بشكل عام والتونسي بشكل خاص.
بدون أن ينكر المؤلف الأسباب الموضوعية التي أدت الى هذه الانفجارات كالبطالة المتفشية، والفساد، والمحسوبية، والديكتاتورية، الا أنه يثبت بالدلائل القطعية كيفية تواطؤ عوامل خارجية مع عناصر داخلية لإثارة أحداث الشغب والزعزعات هذه. انه يكشف لنا كيف تمت عملية تدريب الشباب العربي على استخدام الفيسبوك والأنترنيت من قبل بؤرة مؤامرات خارجية وأجهزة سرية أجنبية (أمريكية تحديدا). انه يبين لنا كيف تمت “فبركة” الربيع العربي في الغرف المظلمة من خلف الستار ابان عهد باراك أوباما.
ذوقد ينعت الحداد هذا الربيع “بسايكس بيكو 2” كما ويكشف عن الدور الذي لعبته فضائية تلفزيونية معروفة بتعاطفها مع الجماعات الأصولية في بث البروباغندة المتواصلة على مدار الساعة لصالح زعزعة الأنظمة القائمة ودعم الاخوان المسلمين لكي يحلوا محلها.
كل هذا أصبح معروفا الآن بل وفي ذمة التاريخ. كل هذا انفضح وانكشف وسقط عنه القناع. ولكن ينبغي التذكير به لأن كل الجماعات المضادة لحركة التقدم التونسي والعربي، كل الجماعات المضادة للرئيس النزيه المثقف قيس سعيد، لم تلق سلاحها بعد بل وعادت الى الخدمة مجددا. أنظروا كيف هاجت عليه جوقة الاخوان المسلمين ومن لف لفهم من مثقفين عرب أو أشباه مثقفين يدعون الحداثة والاستنارة وكل حداثة واستنارة منهم براء. أنظروا كيف فتحوا عليه أبواقهم دفعة واحدة وكأنهم كتلة متراصة تتحرك بكبسة ذر! انهم يرددون ذات الكلام الكاذب المضلل كالببغاوات من مطلع الشمس الى مغربها. ولكن الشعب ليس غبيا الى مثل هذا الحد الذي يتصورون. ولا يستطيعون أن يخدعوه الى ما لانهاية باسم الدين والمتاجرة بالدين. لقد خدعوه مرة واحدة، وهذا يكفي!
قيس سعيد سوف ينقذ تونس من الاخوان مثلما أنقذها الحبيب بورقيبة من الاستعمار
لقد ابتدأ الشعب يفهم أن هذا الرئيس المحترم النظيف اليد هو الذي يخدمه بكل تفان وإخلاص، وليس تلك الجماعات الخارجة من كهوف التاريخ والتي تتاجر به وبعقيدته. بعضهم أصبح مليونيرا بفضل هذه المتاجرة بالدين! كم هو عدد الدعاة التلفزيونيين المليونيريين؟ ألم يقل لنا الكندي بأن هؤلاء “يتاجرون بالدين ومن تجر بالدين ليس له دين. من تجر بشيء باعه”. هذا ما قاله الفيلسوف العربي الأول قبل 1200 سنة. لم يتغير شيء من هذه الناحية ولم يتبدل. لكن الكندي ثم بعدة ابن رشد يتحدث عن اخوان زماننا أيضا وليس فقط عن اخوان زمانه. وذلك لأن الدين هو قدس الأقداس ورمز الرموز. ومن يسطو عليه يربح الانتخابات حتى دون انتخابات! لقد آن الأوان لكي نخلصه من براثنهم بعد أن اختطفوه رهينة وأوصلهم الى سدة البرلمان وغير البرلمان وجعلهم يعربدون في كل مكان. لقد آن الأوان لإيقافهم عند حدهم. وهذا ما يحاول أن يفعله الرئيس المؤمن المخلص قيس سعيد في هذه اللحظات بالذات. انه رجل العلم والايمان المستنير. لقد برهن الرئيس التونسي على أنه رجل دولة بالفعل لأنه عرف كيف يتخذ القرارات المناسبة في اللحظة المناسبة بغية إنقاذ الدولة والوطن والشعب. لقد أدهش الجميع بقوة شخصيته وصواب موقفه. ومعلوم أن الظروف الاستثنائية تصنع الرجال العظام. وأعتقد أنه في طوره لأن يصبح أحدهم. أعتقد أنه سوف ينقذ تونس مثلما أنقذها الزعيم الحبيب بورقيبة من الاستعمار كما أنقذ الرئيس عبد الفتاح السيسي مصر من نضام الاخوان .
الشيء المضحك المبكي في القصة كلها هو أن راشد الغنوشي وتابعه الذليل المنصف المرزوقي يتحدثان عن “انقلاب على الشرعية” وتردد ذات القناة التلفزيونية المشبوهة تصريحاتهم على مدار الساعة أيضا. ولكن من الذي يمثل الشرعية الحقيقية في تونس؟ أليس هو قيس سعيد المنتخب مباشرة من الشعب عام 2019 ومن قبل نسبة ضخمة تتجاوز 72% من الشعب التونسي؟ لن أذكر اسم هذه القناة هنا لأن الجميع يعرفها ويعرف أنها شعبوية ديماغوجية غوغائية قائمة على الصراخ والزعيق والأكاذيب. بلى سأذكرها: انها قناة الجزيرة القطرية: قناة الاخوان المسلمين والقاعدة وداعش كما قال المازري الحداد في بداية 2011. ولهذا السبب فقدت مصداقيتها مؤخرا. حقا ان حبل الكذب، مهما طال ، قصير. مرة أخرى نقول: في النهاية لا يصح الا الصحيح. كل هذا الضجيج والعجيج ذهب أدراج الرياح. “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”. صدق الله العظيم.
ثم نجد أنفسنا أمام سفسطة انتهازية أخرى برع فيها الاخوان المسلمون ليس فقط في تونس وانما حتى في فرنسا ذاتها وفي الغرب عموما. فهم يستغلون أفكار الحداثة من حرية ومساواة وحقوق انسان لصالح الدفاع عن مواقف رجعية مضادة تماما. لقد برعوا في ذلك مؤخرا الى درجة أدهشت الجميع. هل تريدون أمثلة على ذلك؟ نحن نعلم أن حرية التفكير والتعبير شبه مقدسة في بلدان الغرب المتطورة. فماذا فعل الاخوان المسلمون بها؟ لقد فرغوها من محتواها ومضمونها وعكسوها ضد ذاتها. لقد راحوا يستغلونها لنشر الكراهية ضد الآخرين وكذلك لنشر تصورات ظلامية متخلفة عن الحياة والمجتمع والمرأة والدين الاسلامي كله. بل وحاولوا إقناع جاليتنا الكبيرة في فرنسا بتبني مواقفهم المتطرفة وتصوراتهم المكفرة لأتباع الأديان الأخرى والمضادة للتسامح. وعندما احتج أحدهم ردوا عليه فورا قائلين: نحن نمارس حرية التعبير ليس الا. هل أنتم ضد حرية التعبير والتفكير في فرنسا؟ لكأن الإشادة بالطائفية أو العنصرية هي حرية تعبير!
عن أي “مكتسبات ثورة” يتحدث المنصف المرزوقي و تونس قد أفلست ؟
ثم تصل المغالطة بالمنصف المرزوقي الى حد التحدث عن “التراجع عن مكتسبات الثورة”! وأي مكتسبات هذه يا رجل؟ البلاد على حافة الافلاس والانهيار! يقول لنا المازري الحداد: قبل عام 2011 كانت تونس في طليعة البلدان العربية من حيث الازدهار الاقتصادي وامتلاك أوسع النخب العلمية، والتكنولوجية والطبية والهندسية. وكانت تصدر الى العالم العربي خبراتها واليد العاملة البناءة في كافة المجالات. ولكن بعد 2011 في عهد الغنوشي وجماعته ما عادت تصدر الا اليد العاملة الارهابية! هل نعلم بأن عدد الجهاديين الدمويين التونسيين في العراق وليبيا وبالأخص في بلدي العزيز سوريا المغدورة يبلغ الآلاف المؤلفة. وهو أكبر عدد في العالم قياسا الى عدد السكان. وقد ارتكبوا هناك جرائم مروعة. وكل هذا ربيع عربي! من الذي سفرهم الى سوريا لذبح وسحل أبناء شعبي الباسل؟ أو من الذي غض عنه الطرف؟
أخيرا عندما تذرف هذه الجماعات الاخوانية دموع التماسيح على الديمقراطية في تونس أو في مصر أو في سوريا من يصدقها؟ بل من يصدق أنها تعرف معنى الديمقراطية؟ الديمقراطية ثقافة بأكملها وليست فقط مجرد صناديق اقتراع. الديمقراطية ضد استغلال الدين أو بالأحرى قداسة الدين لأغراض سياسية انتهازية. “الدين لله والوطن للجميع” كما قال قادة النهضة العربية وكما يقول الرئيس قيس سعيد ذاته. الديمقراطية ثقافة تنويرية متسامحة مضادة لعقيدة الاخوان المسلمين جملة وتفصيلا.
* كاتب وباحث ومترجم سوري. أهم ما صدر له مؤخرا “لماذا يشتعل العالم العربي”؟ (2020). و “العرب بين الأنوار والظلمات. محطات واضاءات”(2021).
شارك رأيك