إن مسار التصحيح الثوري الذي شرع قيس سعيّد في إنجازه منذ أسبوعين لم يسحب فقط البساط من تحت أرجل الطغمة الاخوانية الفاسدة والحزب الدستوري الحرّ المتمعّش من فسادها، اللذين كانا يتصدّران واجهة المشهد السياسي المقزّز عشيّة الإعلان عن تفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي، بل أيضا وَضَعَ النخب الحزبية والحقوقجية والنقابية (وتِباعًا الإعلامية) في موقع التسلل، أو بعبارة أخرى حشرها في زاوية العطالة واللاّفعل السياسي. وهو – طبعا – ما لم يرق بتاتا لهذه الأوليغارشيات (حكم الأقليّة) التي تعوّدت أداء أدوارها المعهودة في إطار تقاسم الوظائف ضمن “اللعبة الديمقراطية” الشكليّة بين حكم الغالب (النهضة الاخوانية وحلفائها) ومعارضة المغلوبين المسؤولة جدّا بحكم تقيّدها حدّ الهوس بقوانين اللعبة التي صاغتها الطغمة إياها ضمانًا لإعادة انتاج الموازين السياسية القائمة والعلاقة غالب/مغلوب، في ضلّ تغييب الشعب وإقصائه.
بقلم د. حسين الباردي
الذي يعنينا تحديدًا في هذا المقال هو النّخب المتطرّفة في نخبويتها واستعلائها والتي وجدت نفسها موضوعيّا في نفس الخندق مع النهضة الاخوانية الفاسدة، أي ضدّ الشعب التونسي، ناهيك أن العجمي الوريمي (أحد رموز “النهضة”) لم يتردّد في قناة الزيتونة (الاخوانية، طبعًا) في التحجّج بحِكمة “الرّفيق” حمّة الهمامي المندّد بالانقلاب، “استئسادًا” بالزعيم الأوحد منذ الأزل لـحزب العمّال في مواجهة الخصوم… وعَرِّج عمّن سماه أحدهم “نجيب الله”، والمقصود، كما لا يخفى عنكم، أحمد نجيب الشابي المنتهي الصلاحية منذ أمد دون أن يقوى أبدًا على لزوم الصمت طويلا، الذي لم يتردّد في الظهور طيلة ساعة كاملة بقناة الجزيرة المتآمرة على تونس كي يُسَوِّق نفسه (بالمناقصة وليس بالمزاد العلني) للدوائر الاحتكارية العالمية والعواصم الغربية المؤثرة تقليديّا في الموقف التونسي، مستصغرا ومحتقرًا الرئيس سعيّد الذي يبدو وكأنه انتزع منه ما ملكت يمينه: رئاسة الدولة…
الشيء نفسه ينطبق على أصغر المتزلّفين وأكثرهم نفاقًا ممّن يدّعون المعرفة والخبرة بـ “القانون الدستوري” وما أدراك ما القانون الدستوري – وكأن الأمر يفوق في صعوبته الفيزياء النووية –، رمز الحربائية والوصوليّة والانتهازية، المدعو جوهر بن مبارك. هؤلاء جميعهم بمعيّة بقيّة النخب الحزبية الليبرالية والنقابيّة والحقوقجيّة جنّ جنينهم لأن رئيس الدولة لم “يبجّلهم” ولم يعلِ من شأنهم ولم يستشرهم فيما يعتزم القيام به. أليس همُ الوسائط المدنية، المؤسساتية، الخ.، التي بدونها تنتفي ديمقراطية الأوليغارشيات وتستحيل حكمًا فرديّا استبداديّا ينساق وراء الغرائز الجموعية، أو ما يسمّيه باروك سبينوزا “الغوايات الكئيبة”؟
“من ليس لهم نصيب” يخترقون الفضاء العام
وبغاية فهم موقف هذه النخب (الدينية، السياسية، الحقوقجية، النقابية…) التي ترتعد فرائصها كلما اخترق “من ليس لهم نصيب” (الشعب) الفضاء العام، المستحوَذ عليه من قبل “الخاصّة”، من أجل فرض وجودهم وأولوياتهم، كنّا قد فكّرنا بادئ الأمر الاعتماد على مفهوم “الأجهزة الأيديولوجية (للدولة)” الذي استوحاه لويس ألتوسير من غرامشي، ولكننا فضّلنا في الأخير الاستناد إلى مفهوم “آبيتوس” الذي صاغه عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي بيار بورديو، وهو ما يمكن ترجمته تقريبيّا بعبارة “المَرْبَطْ”. وقد اخترنا هذه العبارة دون غيرها لما تحتويه من دلالة على الشدّ وملازمة الموقع دون الخروج منه. والمربط، على معنى بورديو، هو مرجع التكوين والتنشئة ومصدر السلوك والذوق والذهنية، كما هو مصدر الرساميل المكتسبة جميعها (المادية والثقافية والرمزية…) والتي هي تتوفر لدى البعض دون البعض الآخر (وهم الأغلبية) ضمن هرمية المعايير والقيم السائدة في مجتمع معيّن. ولن نخوض هنا في المربط “الديني” لحركة الاخوان التونسية ولا في المربط “الدستوري” لحزب عبير موسي، وانما سنركّز اهتمامنا على بقية الأحزاب والنقابة العمالية بعد أن كنّا تعرضنا في مقال سابق للـ “الحقوقجية” و”الدستورجيّة”.
بعد مضي نصف شهر على قرار رئيس الدولة الدخول في الحالة الاستثنائية (“صاحب السيادة هو من يقرّر الحالة الاستثنائية”، كارل شميت، الثيولوجيا السياسية، غاليمار، باريس، ص. 16) بدأ المشهد السياسي ما بعد 25 جويلية يتوضح بعض الشيء، حيث انقسمت المواقف بين العداء التام للمسار برمّته وتوصيفه بالانقلاب والخروج على الشرعية الدستورية والديمقراطية، الخ.، وهو أساسا موقف كل من حزب أمل (نجيب الشابي) وحزب العمال (حمة الهمامي)، فضلا عن النهضة وأذنابها وما تبقى من حليفها الأساسي حزب قلب تونس المتآكل، اللذين أسقطناهم من الاعتبار في السياق الحالي. ذ
حزب أمل الذي دافع بشراسة خلال شهر مارس 2021 على اتحاد علماء المسلمين المعروف بجمعيّة تاجر الدين المرتزق يوسف القرضاوي، كان قد نعت، على لسان نجيب الشابي، من انتفضوا يوم 25 جويلية بـ “العامّة” التي لا ينبغي إيلاؤها أهمية أكبر مما تستحق. هذا النخبوي-النظامي المتعالي، الذي لا يكِنّ غير الاحتقار لشعب “الدهماء” ولِمن استجاب لنداء التغيير (قيس سعيّد)، يلهث كعادته وراء الدعم الأجنبي ويراهن على تحرك العواصم الغربية من أجل “ترويض” الحالة التونسية وكبح جماح “العامّة/الرعاع/السوقة” وإعادة سلطة القرار لأهله وذويه: النخبة الرشيدة، المثقفة والمسؤولة… الكفيلة وحدها بإعادة ترتيب البيت الداخلي التونسي بما يُرضي النظام الرأسمالي النيولبرالي المُؤَمْوَل-المُعَوْلَم.
“الرفاق” الغيورين على النظرية أكثر من غيرتهم على حقوق الشعب
هنا بالذات يكمن “مربط” الحزب/الرجل الذي انبطح منذ 2001 (لمّا استبدل اسم التجمع الاشتراكي التقدمي بـالحزب الديمقراطي التقدمي) أمام المدحلة النيولبرالية المأزومة. أما عن مربط حزب العمال فهو، وإن بدا ظاهريّا مناقض للأول (“شيوعية” ضدّ نيولبرالية)، فهما في الواقع يتقاطعان في مستوى الدغمائية والعمى العقيدي: الأول حاقد على “العامّة” وعلى من يتماهى معها فهو واحد منها ولا يستحقّ مثلها غير الاحتقار، والثاني يعتبر أن استجابة رئيس الدولة للمطالب الجماهيرية يمثّل خرقا لا يغتفر للدستور ما في ذلك شك وبالأخصّ للمبدأ اللينيني الحديدي القائل بأن الطبقة العاملة (هنا الجماهير الشعبية) بحاجة إلى الطليعة البروليتارية وإلى الثوريين المحترفين، من أمثال حمّة ورفاقه، الذين سيضيئون الدرب وينشرون الوعى صلب العمال العاجزين على اكتسابه بمفردهم ويقودون عملية التغيير، الخ. وقد سجل التاريخ بأحرف من دم ما أفضت إليه التجربة البلشفية وانقلاب حزب لينين على السوفياتات وارتكابه مجزرة كرونشتاد ومصادرة الحريات جميعها، الفردية منها والجمعية، فضلا عن حملات التصفية الجسدية والمحاكمات الصورية والنفي الجماعي إلى سيبيريا وغيرها من الجرائم الشنيعة المرتكبة في حق الإنسان من قِبل النظام الشمولي الستاليني؛ ستالين الذي لا يزال حزب حمّة الهمامي يحتفل بذكراه “المجيدة” كل سنة…
وباختصار شديد فإن لسان حال “الرفاق” الغيورين على النظرية (كيفما “فهموها”) أكثر من غيرتهم على الشعب وحقوقه ومصلحته يقول إنّ الواقع تنكّر للنظرية (المؤدلجة لينينيّا) وبالتالي فهو مرفوض؛ وعليه فإن ما حصل في تونس ليس إلاّ انقلابا قبيحا على الشرعية الدستورية وعلى الديمقراطية يؤذن بإلغاء الحريات وبعودة الاستبداد، الخ. لن نستعرض مواقف ماركس من ثورة 1789 و1793 و1848 ومن كومونة باريس (1870) وغيرها من الأحداث الثورية الأخرى (وعلى رأسها مناصرته للشعبوية الثورية الروسية: “النارودنيك”) التي بالرغم من انتفاء القيادة الشيوعية وحزبها الثوري الجهبذ كان قد انتصر لها ماركس بدون تردّد، ولكن سنذكّر “الرفيق” حمّة ومن معه بجملتين وجيزتين الأولى وردت بـ “البيان” ومفادها “إن قانونكم [دستوركم] ليس إلا إرادة طبقتكم مصوغة في قانون عام”، والثانية، وهي الأهم في اعتقادنا، وقد وردت في “نقد برنامج غوتا”، ونصّها: “إن كل خطوة تخطوها الحركة الفعلية لخير من دزينة من البرامج”…
هل ولى “نظام الأحزاب” إلى غير رجعة؟
لنترك هؤلاء السياسيين “المحنّكين” – “خاصّة الخاصّة” من بين النخب النظامية – يتخبّطون كلٌّ في شراك عَمَاه الإيديولوجي، ولنواصل نحن رصد دوافع وخلفيات مواقف الأطراف التي لم تحِد قيد أنملة عن مرْبَطِها السياسي أو النقابي في تعاطيها مع هذه الثورة الهادئة التي يقودها حاليّا قيس سعيّد بدعم شعبي كاسح. واللافت للانتباه في هذه المواقف سواء كانت مناصرة (حركة الشعب، مثلا) أو رافضة رفض المتمنّعات (التيار الديمقراطي) أو مناصرة باحتراز (مشروع تونس) أو رابضة بين منزلتين (اتحاد الشغل)، يمكن إرجاعها بسهولة إلى “مرابطها” السابقة لـ 25 جويلية وما يأمل كل منها كسبه لاحقا. أمّا الأول فيحسب له مبدئيته وثباته في الموقف الداعم للرئيس سعيّد، وهو ما لا نستغربه من حزب يتوافر على حدّ أدنى من وضوح الرؤية الفكرية والوحيد من بين بقية الأحزاب البرلمانية الذي لا يكتفي بالاعتراف للدولة بدورها الاجتماعي وإنما أيضا الاقتصادي. وعليه فلا ضرّ إن أدخل هذا الحزب في الحسبان إمكان إحرازه على بعض الانتصارات في الآتي من المواعيد الانتخابية، فاستطلاعات الرأي السابقة مباشرة ليوم 25 جويلية بوّأته على ما يبدو مراتب أمامية (نسبيّا). أمّا الثاني فقد تصدّر طليعة الأحزاب الانتهازية حيث انكشفت حساباته الفئوية المقيتة من خلال قوله بضرورة رفع التجميد على البرلمان بعد التنظيف، الذي ينبغي أن يتم في أقرب الآجال، معتقدا أن الرئيس سعيّد سيعبّد له ومن سيحذو حذوه طريق الأغلبية النيابية البديلة. هيهات. وكما يقول المتنبي “… وتكبر في عين الصّغير صغارها…”، وبإمكان سامية عبّو أن “تُهسْتر” ملء حنجرتها كما بإمكان هشام العجبوني أن يتوخّى الأسلوب النقيض لقول الشيء نفسه، فلا مجال للشعب التونسي أن يرشح من جديد في الإناء الذي تقيأ فيه وعليه. وليعلم هؤلاء، مرّة وإلى الأبد، أن “نظام الأحزاب” (شارل ديغول) ولّى إلى غير رجعة.
كما نجد من بين الأحزاب التي تلهث وراء التموقع معوّلة على دورة الإسعاف الانتخابية المبكّرة من يريد إقناعنا بعذريته السياسية المتجددة، ونقصد مشروع تونس الذي نحيله على ما قاله جورج كليمنسو في ظروف مشابهة: “الشرف كالعذرية لا يصلح إلاّ مرّة واحدة فقط”. فحينما نستمع أو نقرأ لمحسن مرزوق وهو يدافع عن حل البرلمان وينادي بالاستفتاء وبالإصلاح السياسي الشامل تخالنا نستمع إلى سياسي لم يشارك بتاتا في الحكم ولم يتورط في أخطائه القاتلة وفضائحه ولم يساهم بقسط وفير في رسكلة من تتلمذ بمدرسة التجمع الدستوري… ولم يقترح إدخال النووي إلى تونس… كيف يشفى المرء من حب السلطة للسلطة والأنا متضخمة بالقدر الذي لا يسعها إلاّ منصب الرئيس في نظام رئاسي صرف؟
إتحاد الشغل متخوف على مركزيّة موقعه داخل المنظومة المتداعية للسقوط
وإلى حين تصلنا الإجابة عن هذه “المعضلة” نمرّ إلى الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان يُفترض فيه أن يكون الأقرب إلى حركة الواقع وهموم “الشغّيلة” وطموحاتها، ولكنه تصرّف على شاكلة بقية الأحزاب، أي أنه تفاعل مع الحدث الجلل من الزاوية النخبوية الضيقة التي تسهر قيادته على “صيانة” مربطها. فالاتحاد (والمقصود هو نخبته القيادية) استشعر أكثر من غيره وقبلهم أيضا “الخطورة” التي يشكلها المسار التصحيحي على مركزيّة موقعه داخل المنظومة المتداعية للسقوط.
مربط الاتحاد في مركزية موقعه ضمن الشبكة الوسائطية، ومركزية موقعه هي مربطه. ما العمل إذن والحال إن الجماهير تدعم قيس سعيّد وهو ماضٍ قدما في التطهير والتصحيح؟ المنزلة بين منزلتين أهنأ وأروح. فلا تجديف ضدّ التيّار الشعبي الجارف ولا مساندة غير مشروطة كذلك. فالمطلوب من الرّئيس هو تعيين “رئيس الحكومة”، فالاتحاد رافض قطعيّا لسيناريو الوزير الأول، ولا إظهار لخارطة الطريق السماوية الاتحادية بدون تعيين رئيس الحكومة “الكفء” اقتصاديّا وماليّا فالمرحلة تقتضي ذلك (اقرأ إملاءات الدوائر الاحتكارية المالية والمركز الامبريالي العالمي). مربط الاتحاد ليس الطبقة “الشغيلة” التي تساند في أغلبيتها الساحقة الإجراءات التصحيحية الثورية، وإنما مربطه مركزية النخبة القيادية المتماهية مع جهاز الاتحاد البيروقراطي ودوره “الإنقاذي” الذي يبدو – بحسب هذه الذهنية – قد انتزعه منه قيس سعيّد بغير وجه حقّ…
إن نظام الأحزاب النخبوية والمنظمات الحقوقجية (وأخواتها الأخرى الأوليغارشيات الاقتصادية والمالية والإعلامية)، شأنها شأن القيادة النقابية النخبوية البيرقراطية، يلتقون جميعهم في التشبث بكل ما أوتوا من قوّة بـ “مرابطهم” التقليدية المفترض فيها السهر على ضمان التواصل المستمر بين الحكام والمحكومين كي لا ينفرط العَقد بينهما وهو قد انفرط فعلا في الحالة التونسية بسبب فشلها الذريع في أداء هذه المهمّة التي استحالت كما قال أحدهم صائبا “ريعا ديمقراطيّا”، ما استوجب القفز فوق تلكم الوسائط جميعها والخروج إلى الشارع للتذكير بمن هو فعلا صاحب السيادة. والوحيد الذي التقط الرسالة فورًا واستجاب لنداء الشعب هو رئيس الدولة وقد فعل الذي يجب… ولا يزال. بحيث كان من الأجدر بالوسائط جميعها أن تقتدي بقيس سعيّد وترهف السمع لعذابات الشعب وتطلعاته وتخطو الخطوات الفعلية (ماركس) باتجاه حلحلة أوضاعه، لا أن تعاديه وتحاكمه بما تفترض لديه من نوايا وهمية، فالعبرة بالأفعال ولا محك غير محك الوقائع فيصلاً، فهي كما يقول مارك تواين (الوقائع) عنيدة وغير قابلة للتطويع. ومهما يكن من أمر فإنه لحدّ الآن لا شيء ضمن هذه الأخيرة يوحي مجرّد الإيحاء بنية الرجل المساس بمكتسبات الشعب التونسي الثمينة وعلى رأسها الحرية. والشعب بالمرصاد لكل من تُسوّل له نفسه خيانة المؤتمن. أمّا الأجهزة والمَرابط والمصالح الفئوية والامتيازات النخبوية والخصومات “التموقعية” فهي جعجعة لا ترتقي إلى مستوى أصغر خطوة تخطوها الحركة العملية.
محامي تونسي مقيم في باريس.
شارك رأيك