من يُركّز على الدراسة و الدرجات لا يصبح قائدا و من يصبحون قادة هم أولئك الذين ينخرطون في منظمُات المجتمع المدني و الانتخابات و الاتحادات الطلابيّة. يعني أنّ التعليم لوحده لا يعدُنا بمنحنا مواطنين قادة أو روّادا وإنّما يجب أن ينضاف إلى التعليم مسائل حيوية كالانخراط في الحياة العامة و النوادي الثقافية و الرياضية حتى تتكوّن الشخصية و تتبلور بصفة تجعل منها شخصية تفاعلية و عملية و ريادية.
بقلم ميلاد خالدي *
يكتسي التعليم في تونس مكانة مجتمعية مُعتبرة، حيث تمّ إيلاء هذا المرفق الحيوي الأهمية التي يستحق لا سيّما بعد الاستقلال، حيث رُصدت له الميزانيات المطلوبة وهو ما انعكس على جودة التعليم و على ارتفاع نسبة التمدرس و تخرّج كفاءات ذات شأن في الداخل و في الخارج، ودون أن ننسى، طبعا، الهنات و العيوب التي طالت هذا القطاع في العقدين الأخيرين.
هذه المكانة المجتمعية للتعليم في تونس جعلتنا، لسوء الحظ، نقيس مستوى التلميذ من خلال دفتر الأعداد والدرجات التي يتحصل عليها ومدى حظوظه في الالتحاق بالمعهد النموذجي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل كلّ ما ننتظره من التعليم هو درجات و معدّلات عالية أم إنّ هناك عوامل أخرى ضرورية وقع التغافل عنها؟
التعليم النموذجي لا يراهن على جيل قائد
ما زال هوس العائلات التونسية بتدريس أبنائها في المعاهد النموذجية كبيرا ومبالغا فيه، وكأنّ الذي لم يلتحق بالمعهد النموذجي يعتبر تعليمه ناقصا أو دون المطلوب. صحيح أنّ الدراسة في المدارس و المعاهد النموذجية تمنح التلاميذ فرصة للتميز و المنافسة، حيث أنّ حظوظهم في الحصول على الشُعب والاختصاصات التي يريدونها في الجامعة أكثر وأوفر وحتى أنّ نسبة حظوظهم في السفر لمزاولة دراستهم في الخارج تبقى جدّ مرتفعة.
بلغة أخرى فإنّ التعليم النموذجي يظلُّ حكرا على النخبة و هذا ما يجعل لعاب فئة من المجتمع التونسي يسيل، طالما أنّه غير متاح لجميع التلاميذ إلاّ بشروط وقائم على التصفية و الفرز، فهو يُمثّلني ويُميّزني عن الآخر المتوسّط العادي، إنّها العقلية التي تُرسّخ الشعور بالفوقية و الفرز الإدراكي الذهني على حساب الأغلبية التي لم تتوفّر لها فرص التفوّق و التميّز، بيد أنّ هذا التعليم النموذجي، في أغلبه، لم يُفرز لا قياديين و لا رُوّاد.
لذا فالتسمية الفرنسية Lycée Pilote هي تسمية خاطئة، إذا اعتبرنا أنّ Pilote لا تتوافق مع لفظ نموذجي لغة و اصطلاحا. فPilote هو القائد الذي يعمل على توجيه عمل الباخرة أو الطائرة، يعني يتحمّل المسؤولية المعنوية والماديّة والانتقال بالمرافقين من حال إلى حال و وهو ما لا تقوم به المدرسة النموذجية التونسية التي لا تراهن على جيل قائد و رائد بقدر ما تراهن على جيل صاحب أعداد مُنتفخة و مُعدّلات صاروخية.
علاقة التونسي بالدراسة و التعليم ما زالت قويّة وتكتنفها العاطفة العقلية، فرغم ارتفاع معدلات البطالة في صفوف أصحاب الشهائد العليا و لا سيّما المتحصّلين على شهادة الدكتوراه فالإهتمام بالتعلّم والنجاح و التألّق لا يفتأ يتطوّر خاصّة من خلال إنفاق الأموال الطائلة على حصص التدارك الذي لم ينقطع بل ازداد و تفشّى رغم العيوب التي تَعتري هذا الإنفاق.
التعليم هو أكثر من دفاتر نتائج و تقييمات عددية
فالتساؤل الذي يتبادر إلى ذهني: إلى أيّ مدى يُشجّع الأباء أبناءهم على دراسة المسرح بدل الطب و دراسة الموسيقى بدل الحقوق و دراسة الباليه و الرقص بدل العلوم الصحيحة؟ ما زالت العقلية، لنقُل المتخلّفة، التي تُعتبر دراسة الفنون أقلّ قيمة و حظوة من بقية الإختصاصات العلمية أو هي مَجلبة للتنمّر و التذمّر.
يجب أن تتغيّر هذه العقلية البائدة التي بقيت مترسّخة إلاّ في المجتمعات العربية فبقيّة الشعوب حول العالم قد تجاوزت هذا الإرث الاجتماعي المتكلس، لتعتبر أنّ الفنّان أو المسرحي أو الرسّام أو الممثّل هو امتداد جميل و ضروري للطبيب و المحامي و المهندس. يموت هؤلاء و تبقى أغنية تداعب أذن مستمع بعد أن توفّي صاحبها، أو كتاب كتبه كاتب أو هندسة معمارية فريدة لفنّان ما، أو نصب تذكاري لزعيم دولة عظيم أخرج بلاده من نير الاستعمار والجهل والفقر لينقلها إلى مناص الدول المتحرّرة و القوية و الغنيّة.
فمن يُقلّب السير و أوراق التاريخ يجد أنّ أغلب الشخصيات والزعماء المؤثرين في العالم لم يكونوا متفوّقين في دراستهم مثل ستيف جوبز و نبلسون مانديلا وهناك حتى من لم يُنه مساره التعليمي مثل جورج واشنطن الرئيس المؤسس للولايات المتحدة الامريكية. فمجلّة التايم الامريكية تختار كل عام 100 شخصية مؤثرة في العالم ويكون أغلبها من القادة والفنانين و روّاد الأعمال وغيرهم من قبيل الصحفية المصرية لينا عطا الله والمخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو و الممثلة العالمية انجلينا جولي و الناشطة الحقوقية اليمنية راضية المتوكل ورائد البرمجيات و الحاسوب بيل غيتس… شخصيات، لا أحد يسألها عن درجاتها العلمية أو إن كانت متفوقة أم لا، وإنما دويّها الرائع يصل إلى أسماع الناس من خلال أعمالها الجليلة و مدى خدمتها لبلدانها و للإنسانية جمعاء. فما نحتاجه ليس الدرجات والعلامات المتميّزة التي نحصل عليها، وإن كانت مطلوبة في بعض الأحيان و في بعض الميادين حتى لا نتجنّى على العقول العظيمة و الكفاءات الحيّة. فبقدر إنجازاتها و الأصداء الإيجابية و الجليّة التي تتركها في نفوس النّاس و الأجيال القادمة، نعلم علم اليقين أنّ التعليم هو أكثر من كونه دفاتر نتائج و تقييمات عددية.
في البحث عن المُواطن النموذجي…
الدراسة النموذجية التي تعمل على تخريج كفاءات و إطارات دون أن يكون ذلك الإطار مُدرّبا ذهنيا و نفسيا على قبول الآخر و إعطائه من الوقت لخدمة الآخر، واحترامه لقوانين المجموعة دون عُقد… هي ليست بالدراسة التي نحتاجها. فالدراسة النموذجية هي التي تعمل على تخريج و تأهيل مواطن نموذجي، مثال يُحتذى، مواطن يُراعي البيئة و لا يرمي بالفضلات من نافذة السيارة. مواطن متضامن متعاون ينخرط في منظمات المجتمع المدني لإغاثة أخيه المواطن الجريح أو المحتاج كما الأمر في اليابان على سبيل المثال. فتكريس المواطنة النموذجية في كوكب اليابان يتجلّى حين يُنهي الموظّف عمله و يذهب ليتطوّع بساعتين يوميا كسائق سيارة إسعاف أو الوقوف بجانب جمعية تتكفل بأيتام أو ذوي الاحتياجات الخصوصية. إنّه المواطن النموذجي الذي ُينهي صحنه بالكامل و يطلب ما يحتاجه فقط. إنّه المواطن النموذجي الذي لا يغادر عمله إلاّ عند الانتهاء. إنّه المواطن النموذجي الذي يحافظ على ممتلكات مدينته وبلده و لا ينخرط في أعمال النهب و التخريب تحت مُسمّى الدفاع عن حقوقه و حرياته، فلا تزرُ وازرة وزر أخرى في كلّ الأحوال.
إنّ المواطنة النموذجية ليست مُحصّلة الدراسة النموذجية و ليست من المخرجات الموضوعية لمؤسسة تستفرد بالعقول التي تسبق عصرها و زمنها. فحسب دراسات أُقيمت في الغرض فانّ الطلبة الذين يجلسون في الصفوف الأمامية سيصبحون علماء و الطلبة “المشاغبين” الذين يجلسون في الصفوف الخلفية سيصبحون قادة.
يقول الكاتب و الداعية الكبير طارق السويدان، في إحدى محاضراته، أنّ من يُركّز على الدراسة و الدرجات لا يصبح قائدا و من يصبحون قادة هم أولئك الذين ينخرطون في منظمُات المجتمع المدني و الانتخابات و الاتحادات الطلابيّة. يعني أنّ التعليم لوحده لا يعدُنا بمنحنا مواطنين قادة أو روّادا وإنّما يجب أن ينضاف إلى التعليم مسائل حيوية كالانخراط في الحياة العامة و النوادي الثقافية و الرياضية حتى تتكوّن الشخصية و تتبلور بصفة تجعل منها شخصية تفاعلية و عملية و ريادية. فالحصول على درجات عُليا في أمريكا مثلا لا يشفع لك للحصول على بعض الوظائف، ما إذا لم تكن منخرطا في المجتمع المدني و العمل التطوّعي حيث أنّ هذه الأنشطة تمثّل شرطا أو مقفزا رائقا نحو الوظيفة.
في الختام، نحن هنا لا نقلّل من شأن التعليم النموذجي والكفاءات النموذجية في تونس، و إتّما يجب أن يتجاوز تركيزنا معطى الأعداد والدرجات، فكم هناك من نموذجيين و هم ليسوا بمتفوقين دراسيا. فكلّ طالب هو نموذجي و ذكيّ في مجاله، فليس هناك من طالب ضعيف أو غبيّ وإنّما الضعيف و الغبّي هو الذي وضعنا في غرفة واحدة وقال لنا “أغلقوا الأبواب و النوافذ” فرياح التغيير باردة في الخارج و تُسبّب لنا الزُكام.
* كاتب.
شارك رأيك