يمثّل يوم 25 جويلية بالنسبة للذاكرة الوطنيّة حدثا تاريخيّا محمّلا برمزية كبيرة، يشبه إلى حدّ ما، دونما تماهٍ، ما حدث يوم 14 جانفي 2011، ذلك الحدث الذي مثل سقوط النظام القديم. ولكي تكون القرارات السياسيّة التي اتّخذها رئيس الجمهوريّة فعّالة وجب عليه اتّخاذها في الحين، دون تردّد أو تأخير. لقد كانت اللّحظة مواتية ممّا يدل أن قيس سعيّد كان في مستوى الحدث الفاصل الذي جعل منه مُحدّدا رئيسيا في لحظة تاريخيّة فاصلة. (1)
بقلم محمد كرو *
بدل الحديث عن انقلاب كما يفهم من خلال تأويل حَرْفيّ لنصّ الدّستور، يتطّلب الموقف الذهاب إلى ما وراء النصّ لكي نلُم ّ بالظرفيّة، ومن ثمّة التصريح علنا بأنّنا إزاء صدمة أو سهمة ناتجة عن “ضربة” مْعلّم “حدثت وفق نمط أرسطي يقوم على التماهي بين الممارسة السياسيّة والفضيلة، “ضربة” قام بها رئيس حمّال لمشروع أشمل، مشروع ثأر الدّولة الوطنيّة والمجتمع التونسي أمام خطر تفكّك الدّولة، وهو خطر يهدّدها في العمق.
وفي غفلة من الزمن، تُنقذ البلاد بفضل قرار انعتاقي يتمّ وفق” الطريقة التونسيّة”، أي حسب التقليد السّلمي والتفاوضي، مع لجوء إلى القوّة المسلّحة الجمهوريّة بهدف تأمين السّيادة والاستقرار والسّلم إلى أجل غير مُسمّى. وبذلك تثبت تونس مرّة أخرى أنها تختلف عن مصر أو البلدان المجاورة التي تُعرَف بتحكُّم العسكر، بأنّها “جمهورية مدنيّة”، الأخيرة من نوعها في العالم العربي.(2)
مظاهر الفرحة الشعبية والعيد الثوري
بمجرد الإعلان عن القرارات الرئاسيّة القاضية بتجميد البرلمان، ورفع الحصانة عن النُّواب، وتشكيل حكومة جديد في أقرب الآجال، خرج الشعب الساخط على حكم الإسلاميّين السيئ والكارثي، إلى الساحات العامّة محتفلا بهذا الحدث التاريخي.
كان كلّ ذلك بسبب الانحراف بأهداف الثّورة: الشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة، وتسرّب اليأس إلى العقول. وممّا زاد الطّين بلّة، عدم كفاءة الحُكّام الجُدد، وانتشار الفساد ممّا أحال الفئات الأكثر هشاشة- النساء والشباب خاصّة- إلى البطالة، والهجرة، واستهلاك المُخدِّرات والإقبال على تناول الأدوية المُهدِّئة للأعصاب. لكنّ الحكمة الرئاسيّة نجحت في لحظة تاريخيّة في أن تجعل الشعب يتصالح مع ذاته. وكان ذلك الشّعور بالانعتاق في حقيقة الأمر بقدر الإحباط الذي خلّفته سياسة الإخوان الغبيّة.
انقلاب أم ضربة مفاجئة من “مْعلّمْ”.
إنّ الحديث عن انقلاب يمكن أن يجد له مبرّرا من الوجهة النظريّة التي تظلُّ بالضّرورة متعدّدة ونسبيّة. واعتبارا لتعبئة الأغلبية التي خرجت للتظاهر يوم 25 جويلية في أكثر من مدينة من المدن الداخلية: صفاقس، القيروان، سوسة، قفصة، باجة.. وذلك قبيل قرارات الرئيس، فإنّ مسألة القانونية أو التطابق مع القانون لم يعد لها معنى، بل أصبحت واهية بفعل المشروعيّة التي تحيل على علاقة اجتماعيّة وسياسيّة تمنح طرفا فاعلا معترفا به شرعية تأسيس لفكرة العيش المشترك. لاسيّما وأنّ الشرعية هي مرفق سياسي، ووسيلة بيد فاعل سياسي لتدعيم موقعه في السّلطة في وضعيّة صراع سياسي.
وفي هذا الإطار تحضرنا مقولة الجنرال دي غول(De gaulle) الذي صرح بنَفَس لا يخلو من الحزم:” تذكّروا هذ الكلام جيّدا: هناك فرنسا قبل كل شيء، ثم الدّولة، وأخيرا وبالقدر الذي تُحفَظُ به المصالح الكبرى للأثنين، القانون. (3) إنّ الدعوة إلى الانضباط التي صدرت عن قيس سعيّد لهي في الحقيقة إقرار واضح وقوي بأن مصلحة تونس العليا هي فوق كل اعتبار.
حل البرلمان: مطلب شعبي ملح
في أفريل 1938 تظاهرت الجماهير التي وحّدها حزب الدستور من أجل برلمان تونسي. وفي جويلية 2021 طرحت الجماهير مطلب حلّ البرلمان الذي أفرزته الانتخابات الأخيرة في 2019 وكان هذا المطلب مطلبا جماهيريا، إذ أنّ الجماهير كانت تحثّ الرئيس على حلّ البرلمان أثناء جولاته الأخيرة وتواصله مع الشباب مردّدة “حلّ البرلمان”.
وكاستنتاج أخير
هناك أمر لا جدال فيه: لو لم يتدخّل قيس سعيد ليضع حدّا لمنظومة وجدت على رأس الدّولة تقوم على الاختلاس وقمع الحرّيات بعد أن شكّلها الإسلاوميون وحلفائهم الظرفيون، لظلّت البلاد أسيرة أقليّة تتصرف كالمافيا أكثر من تصرفها كحزب سياسي ديمقراطي.
وما يمكن قوله في الأخير أن الرئيس بفضل تلك القرارات المنسجِمة مع الإرادة الصلبة قد خلق الشروط الضرورية للمصالحة بين الدولة والمجتمع.
بقي الآن دور المجتمع المدني في بكل تجلّياته الرسمية: المنظمات الوطنية وغير الرسمية والحراك الاجتماعي للعمل على تحييد المخاطر التي قد يشكّلها تجميع السلطات في يد شخص واحد وعودة الدكتاتوريّة، وهي مجرد مخاوف ليس لها مبرّر على صعيد الممارسات باعتبار أن مبادئ التعدديّة السياسيّة والحريّات لاتزال تحترم.
هوامش :
1- مقتطف من المقال الصادر في مجلة ليدرزLeaders بتاريخ 27-07-2021 باللغة الفرنسية، رابط المقال كاملا.
2- في إشارة إلى مقال الأستاذ المرحوم عبد القادر الزغل:” الجمهورية المدنية الأخيرة في العالم العربي، مجلة جون أفريك Jeune Afrique، 1988.
3– لا يسعني إلا التّوجه بالشكر إلى كل من إلياس كرو الذي ذكرني بهذه القولة وكذلك صديقي خالد المفتي الذي كانت لي معه نقاش أمام المسرح الروماني في قرطاج قبالة البحر ونحن نحتفل بالحدث التاريخي ليوم 25 جويلية .
شارك رأيك