كانت النهاية متوقعة مثلما كان الفشل متوقعا. لقد تخطّت التجاوزات السياسية الخطوط الحمراء وكادت أن تحُلّ تيارات الخنادق السياسية المُعتّمة ولوبيات الفساد محلّ الدولة. لقد كنا في وضع لم ندرك قيمته قبل 2011، يجمع بين طيّاته رغم النقائص وعدم الرضى معاني الأمن والأمان، و يتلخص في كلمة واحدة و قيمة واحدة : “الدولة”، التي نراها اليوم للأسف تتهاوى أمام أعيننا بطعنات أبنائها، عن عمدٍ أو جهل. لقد بات ضروريا إيقاف مشروع الفوضى قبل فوات الأوان.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
ثورة 2011 : مفهوم دون نصاب علمي.
اجتمعت ظروف كثيرة أثناء حقبة “حكم بن علي” قادت الشباب إلى اليأس وانسداد الأفق وأخرجته إلى الشارع مطالبا بالشغل والتنمية والكرامة.. وعمّت موجة الغضب البلاد. وغادر الرئيس وسقط النظام. ولكن ما حدث لدينا ليس بثورة بمفهومها الحقيقي إذ لم يكتمل لها النصاب العلمي في تعريف الثورات.
فالثورة تعريفا تتلخص في ثلاثة أمور: الأول: أن يكون لها رأس ” قيادة” الثاني: أن تكون بقدمين للسير ” برنامج تسير به” الثالث: أن يكون لها جسم ” قاعدة شعبية”.
هذا من ناحية الشكل، أما من ناحية المضمون فينبغي أن تتوفّر للثورة إمكانية الوصول الى الحكم والاتفاق على برنامج اصلاح للمستقبل وأن تكون لها سياسة أو أيديولوجيا تتعارض مع السابقة وتزيحها. ويتفق هذا المفهوم مع ثورات عديدة عرفها العالم وأبرزها: الثورة الإنجليزية 1860، الثورة الأمريكية 1782، الثورة الفرنسية 1792، الثورة الروسية 1917، الثورة المصرية 1952، الثورة الإيرانية 1979، الثورة البولندية 1984.
الواقع، أنّ ما عشناه هو مجرد حالة هروب من شخصنة الدولة للوقوع في حالة من الإفلاس الأيديولوجي وضياع القيم السياسية وتزايد الشعارات الفاقدة للوزن إن لم تكن أضحوكة مؤلمة. لقد عشنا محاولة القضاء على الدولة حيث أصبح مفهوم الولاء تكريسا للتخلف والرجعية، ومفهوم الانتماء شعوذة ودجلا. لقد كادت أيادي الهدم أن تطال السيادة والأمن القومي “الوطني”، وكان ذلك بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الصبر.
استرداد الدولة في قلب سياسة المراحل
خرج التونسيون يوم 25 جويلية وصمّموا على استرداد دولتهم وجاءت الاستجابة عبر تفعيل الفصل 80 من الدستور. لم يعد بالإمكان لهذا الطرف أو ذاك أن يدّعي أنه حُرم من فرصته في الحكم أو طُرد من السلطة والسياسة. فالتشكيلات الحكومية وتركيبة البرلمان المتتابعة تشهد عليهم. فنخبنا المنفردة بحكمتها لم تكسب أيّ معركةً، وأوضاع المجتمع لم تتحسّن إن لم تكن قد ازدادت سوءًا، والصورة لا تبدو أفضل على المستوى الأمني والقضائي، فخطر الفوضى ماثل قطعا.
أفهم بكل تأكيد قلق الراي العام حول الحاجة المُتأكدة لتأمين مسار المرحلة القادمة ورسم ملامح البرنامج السياسي المستقبلي والذي انطلق بمحاربة الفساد. ولكن ما نحن مقبلون عليه أدعى للحرص والروِيّة قبل اتخاذ أي قرار أو تكوين أي فكر قد يكون سلبيا أو إيجابيا.
لا يمكن طرح اصلاح الوضع القائم في خانة ضرورة “حرق المراحل” بعد أن كان في خانة ” العودة الى الماضي”، ولا يمكن صياغة السيرورة التاريخية التونسية بالقفزات، وتجاوز الشروط الموضوعية لعملية الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى. فاسترداد الدولة الوطنية الحديثة والتخلص من “التصور الأحمق” و”البديل المستحيل” المتمثل في “العودة الى ما قبل التاريخ الراهن” لا يأتي بقرار.
واعتقادي في هذا السياق أنّ الإرادة لا تستطيع أن تصنع تاريخا على هواها، قد تستطيع أن تدفعه إلى الأمام إذا كان قابلا للدفع، أو تتوقف للقفز أو التقهقر. وعلى هذا يصبح عامل الوقت أحد أهم المتطلبات الحاكمة لإدارة الأزمة القائمة.
حقوق الإنسان أصبحت وسيلة الغرب الجديدة لاختراق مناعة الأوطان
هناك حاجة لأن تتم التغييرات الإصلاحية بالتدريج مع الحوز المعقول للوقت، وأن يتجه الفريق الحكومي “المنتظر” إلى جذور وأولويات القضايا المطروحة ويتخذ إجراءات حازمة لصون حقوق وكرامة المواطن وحياته وتكريس دولة المؤسسات، فلا حرّية من دون دولة قانون، وقطعا لا “عدالة اجتماعية” من دون دولة قوية نافذة.
جدير بالذكر أنّ الأحداث الأخيرة بـأفغانستان جاءت لتطيح بكلّ المسلّمات وتأخذنا الى حتمية المراحل التاريخية إذا جاء أوانها. والدرس المستخلص هو حماية القاعدة الشعبية العريضة حتى لا يقع ضربها في الصميم عبر غرس بؤر التطرف والتجسس واستشراء الجمعيات الحقوقية ذات التواصل مع الخارج والتمويل الأجنبي.
من الواضح أن حقوق الإنسان أصبحت وسيلة الغرب الجديدة لاختراق مناعة الأوطان واستعبادها. هذا الشعار هو أمل ننشده ونسعى إليه، إذا كان صادرا عن جهة قدّمت نموذجا عبر تاريخها لمضمونه، لكن أن يكون الشعار صادرا عن دول البداوة السياسية وقوى الظلام والاستعمار فلن يكون إلا خُدعة يُراد لنا أن نقع فيها.
* ضابط سابق في سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك