بعد صمت عن القول العام دام قرابة الشهر نطق المجلس الأعلى للقضاء في بلاغه الأخير الموجه للرأي العام الصادر في 21 أوت 2021 تعليقا بصفة خاصة – كما ورد بالبلاغ – على “حملات التشويه التي تستهدف القضاة التونسيين بكل أصنافهم والصادرة عن جهات مختلفة”.
بقلم القاضي أحمد الرحموني
وللحقيقة، فإن المجلس الذي تأخر عن الرد في حينه على حملات التشويه، قد انشغل في الأثناء بتنظيم العمل في المحاكم والتوقي من انتشار فيروس كورونا وإعداد الحركة القضائية السنوية فضلا عن النظر في الشؤون التأديبية وخصوصا في ملف السيد الطيب راشد.
ومهما كان، فقد يظهر لنا أن المجلس لم يقل كل الحقيقة ولا حتى نصفها وقفز بالتأكيد على وقائع كثيرة، وكأنه في الأخير قد استعمل الكلام- كما يقول الفلاسفة – ليخفي ما يريد! فماذا يمكن لنا أن نفك بين يدي هذا البلاغ من الغاز؟
مبدأ توازن السلطات انتفى بحكم تركيز كامل السلطات بيد رئيس الدولة
1-البلاغ ربما تأخر حتى يسقط رأي المجلس في قرارات رئيس الجمهورية (الصادرة في 25 جويلية الفارط) بالتقادم. وبالرغم من تأثير تلك القرارات بصفة كبيرة على ممارسة السلطة القضائية فإن المجلس قد تجنب الخوض فيها، بل سبق له في تصريح لأحد أعضائه (السيد عماد الخصوصي) أن كذب مااشيع بخصوص ذلك مؤكدا انه “ليس هناك أية جلسة مرتقبة للمجلس لتدارس القرارات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية” (وات بتاريخ 27 جويلية الفارط).
فهل يمكن أن نعتبر ذلك هروبا (أو تهربا) من الإخلال بالحياد.؟ أو تنفيذا لطلب؟ أو أن في الأمر مساسا بمبدأ توازن السلطات؟!علما وان ذلك المبدأ لم يعد له وجود بحكم تركيز كامل السلطات التنفيذية و التشريعية بيد الرئيس!
2-لكن رغم أن المجلس لم يصدر عنه رأي متكامل عن قرارات رئيس الجمهورية (التي نقصدها) ، إلا أنه رأى من المناسب بعد لقاء جمع رئيس الجمهورية ووفدا عن المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 26 جويلية الفارط أن يؤكد أن”النيابة العمومية جزء من القضاء العدلي يتمتع أفرادها بنفس الحقوق والضمانات الممنوحة للقضاء الجالس” و ذلك حتى يتجنب التاكيد – بصفة مباشرة – أن تولي رئيس الجمهورية رئاسة النيابة العمومية يخالف الدستور! مع ملاحظة أن هذا الرأي لم يصدر بإمضاء رئيس المجلس بل ترك للجنة الإعلام والإتصال حتى تعلنه في بلاغ بتاريخ 26 جويلية الفارط.
ما هي حدود انتقاد القضاة من قبل السياسيين أو عموم الناس ؟
3-تعرض المجلس، في نقطة حاول إبرازها كعنوان رئيسي، إلى حملات التشويه (و التشهير) الصادرة عن جهات مختلفة دون أن يسمي هذه الجهات. وفي الواقع تبدو مصادر هذه الحملات (التي اعتادها القضاء) متفاوتة سواء في طبيعتها أو تأثيرها وحتى في خطورتها (سياسيون، صحفيون، مواقع التواصل الاجتماعي…)، لكن هل غاب عن المجلس انه تم التعرض إلى بعض القضاة (في أشخاصهم) وكذلك إلى بعض القضايا من قبل رئيس الجمهورية نفسه؟ ولنا أن نتساءل في ضوء ذلك : ما هي حدود انتقاد القضاة سواء من قبل السياسيين أو عموم الناس؟!
4-بيان المجلس في مضمونه تعرض – فضلا عن حملات التشويه – إلى التدخل في القضاء و الضغوطات التي تمارس عليه سواء في عمله الوظيفي أو عند نظره في الملفات التأديبية (وهي من المشاغل المزمنة) إضافة إلى التأكيد على الإختصاص الحصري للمجلس فيما يتعلق بالتتبع التأديبي.
وعموما يبدو أن تأكيد المبادئ بخصوص ذلك يتوجه بالأساس إلى سائر الناس .لكن يتضح دون حاجة إلى أية تغطية أن المجلس قد سكت عن مسائل تفوق في أهميتها أو تتساوى مع تلك المشاغل كوضع القضاة تحت الإقامة الجبرية (ويتعلق الأمر بقاضيين على ذمة تتبعات تأديبية) ومنع بعضهم دون سبب مشروع من السفر إلى الخارج. فهل تكون هذه المسائل التي تهم السلطة السياسية مباشرة من الشؤون التي تدفع المجلس إلى دائرة التحاذبات السياسية؟!
5-يلاحظ أن المجلس (ربما عن قصد أو عن غير قصد! ) قد فرق في بلاغه بين التدخل في اختصاصات القضاء من جهة والضغوطات الموجهة ضد القضاة التي من شأنها المساس من حيادهم واستقلاليتهم.
وعموما فإن تأكيد المجلس بأنه “يحجر على الجميع التدخل في اختصاصات القضاء بصفة مطلقة” لايمكن أن يعني بحكم الاستعمال إلا السلطة (سواء كانت تنفيذية أو تشريعيّة)، في حين تنسب الضغوطات (وسائر التأثيرات) إلى الأفراد والمجموعات والهيئات. فهل يمكن أن نستنتح أن المجلس يشكو أيضا من تدخلات ذات طبيعة سياسية ؟!
6-ربما لا يبدو واضحا أن مادة البلاغ في أغلبيتها (3 من5) قد تعلقت بالشأن التأديبي (تحت تأثير تداول بعض الوقائع القضائية لدى الرأي العام). وقد رأى المجلس من الملائم أن يؤكد انه هو “الجهة المختصة قانونا بالنظر فيما ينسب للقضاة واتخاذ الإجراءات القانونية عند الاقتضاء”. لكن، في الواقع، من ينازعه في ذلك؟! هل يشير إلى “عقوبة “الإقامة الجبرية التي تم استعمالها خلافا للدستور على قاضيين محل تتبع تأديبي أمام المجلس مع احتفاظهما بالصفة القضائية؟
ولنا أن نتساءل في الأخير كيف تجاوز مجلس القضاء العدلي بسهولة صعوبات البت في ملف الرئيس الأول لمحكمة التعقيب قياسا بالتعطيلات السابقة حتى أنه رأى أن يعلن في بلاغ إيقاف السيد الطيب راشد وإحالة ملفه فورا على النيابة العمومية ان القرار “اتخذ بإجماع الأعضاء أي أعضاء مجلس القضاء العدلي” (بلاغ 20 أوت الجاري)، وذلك على خلاف المعتاد وخصوصا بالنسبة للقرار الصادر في حق السيد البشير العكرمي الذي لم ينص على ذلك الإجماع او على حقيقة التصويت؟! (بلاغ 13جويلية الفارط). فما الذي تغير؟! أم أن للأجواء الجديدة أحكامها؟!
شارك رأيك