ظلت حركة لنهضة تتأسى نفاقا و بهتانا بما جاء في سورة الشورى و ترفع شعار “و أمركم شورى بينكم” لكن الميّة كذّبت الغطّاس و عشر سنوات من حكم ثقافة التكفير و البلطجة و خرق القانون قد كانت كافية للمتظاهرين ليخرجوا الى الشارع في معظم المدن التونسية معبرين بأعلى الصوت بأنه لا مكان في تونس لحزب لا يؤمن بحق الاختلاف و لا يفقه أصول التعامل مع مقتضيات الإسلام المتسامح.
بقلم أحمد الحباسى *
رحم الله أيام زمان حينما كنا نردّد بعفوية تامّة المقولة الشائعة “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”، رحم الله أيام زمان فعلا، اليوم أصبح الاختلاف في الرأي يجرّ المتاعب و ربما يكون صاحبه عرضة للتتبعات العدلية و لهجوم ما اصطلح على تسميته بالذباب الأزرق نسبة للمتعاطين مع الفيسبوك.
انتبهوا معي إلى ما حدث مؤخرا بين قيادات النهضة من تلاسن فاق كل درجات سلم ريختر الحواري و ما رشح من تصريحات مثيرة و غير مسبوقة بعد اجتماع مجلس الشورى الذي لا يحمل من الشورى إلا الإسم نتيجة تغوّل رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشى و استبداده بالرأي و القرار، الاختلاف في الرأي أدّى فيما أدّى إلى تهاطل الاستقالات و التصريحات و إلى حديث عن إمكانية تكوين نهضة مكرر من باب تجميع أعداد الغاضبين و النافرين و الساعين إلى التغيير، فيما يقال و العهدة على الراوي أن حرب اللسان قد تطورت إلى حرب العضلات رغم التكتم الشديد و محاولات التعتيم.
العبارة الشائعة “إعلام العار” أصبحت ملاذ كل من وهنت حجته
لطالما كان رد فعل نواب كتلة ما يسمى بائتلاف الكرامة على أي نقد أو معارضة أو اختلاف في الرأي هو نفسه: تنزيل مقاطع فيديو و تدوينات و تصريحات و تهديدات علنية مسيئة تهاجم و تحرّض بل و تكفّر أحيانا كل لسان أو نفس نقدي، بطبيعة الحال، تعدّ وسائل الإعلام من أول “ضحايا” هذه المجموعة المارقة عن الخجل و القانون و لعلّ العبارة الشائعة الممجوجة التي نسمعها باستمرار هي “إعلام العار” التي أصبحت ملاذ كل من وهنت حجته و وجهة نظره السياسية . لا يكاد يمرّ يوم دون أن يخرج علينا واحد من هذه المجوعة بهجوم لفظي تستعمل فيه كل عبارات الإساءة للاتحاد العام التونسي للشغل لمجرد صدور تصريح ناقد من إحدى قياداته و لعل المتابعين قد أدركوا بأن هناك من يقف وراء هذه الأمواج العاتية من الرداءة اللفظية التي تصدر عن الائتلاف بل من يحمى تهوّر هذه الرموز المسيئة للذوق و للديمقراطية.
لا يختلف عاقلان بأن معركة كسر العظم بين السيد الرئيس قيس سعيد و الشيخ راشد الغنوشى سببها أو انطلاق شرارتها الأولى هي التصريحات الصادرة من هنا و هناك و التي لم ينفها الطرفان أو يدعيان كونها أخرجت من سياقها، هذه التصريحات و ما تلاها من انفعال و غيظ بين الرجلين تؤكد أن حرب الكلام لا يمكن أن تكون محبذة في بعض الأوقات و لكن من الثابت أن رئيس حركة الإخوان قد تملكه الغرور و ظن فى لحظة زهو زائدة أنه قد وضع رئيس البلاد في جيبه مثلما سبق أن فعل مع الرئيس الراحل المرحوم الباجى قائد السبسى و رؤساء الحكومات السابقين و رؤساء بعض الأحزاب السياسية لكن من الواضح من سياق الأحداث الجارية بعد يوم 25 جويلية الفارط أن الرئيس قد تغذى بالشيخ (الذي قال عن نفسه أنه جلد تمساح يصعب مضغه بسهولة) قبل أن يتعشّى به.
لم يعد الاختلاف رحمة و إلا ماذا يمكن أن نسمّى ما حصل في اجتماع مجلس الشورى الأخير بل ماذا يمكن أن نفهم من قرار شيخ حركة النهضة حين حلّ المجلس التنفيذي و رفض الانصياع إلى رأى الأغلبية الغاضبة المطالبة سواء بأن يتأخر خطوة إلى الوراء كما جاء على لسان وزير صفقات العجول محمد بن سالم أو أن ينسحب تماما من الحركة و بالتبعية من مجلس نواب الشعب كما جاء على لسان أكثر من قيادي في الحركة.
الشعارات البراقة الرنّانة لحركة النهضة أصبحت مجرد لغو متنافر
بطبيعة الحال لم يعد هناك من يصدق تلك الترهات البالية التي أطلقتها قيادات النهضة من باب النفاق و التضليل و التي جعلت من المناخ الذي تعيشه النهضة مثالا يحتذي في تبادل الآراء و حق الاختلاف و الشورى و الديمقراطية و الحال أن الحقيقة مخالفة و معاكسة 360 درجة كما جاء في اعترافات متأخرة و مدويّة في رسائل استقالة القياديين عبد الحميد الجلاصى و لطفي زيتون و غيرهما.
الاختلاف موجود و لن يزول و هو جزء من الثقافة و المزاج الإنساني لكن من الثابت أن ما قيل عن المسار الديمقراطي و الانتخابات الشفافة و النهضة هي الحل و ليست المشكل و اسمع منّا و لا تسمع عنّا و الانتقال السلمي السلس للسلطة و غير ذلك من الألفاظ و الشعارات البراقة الرنّانة هو مجرد لغو متنافر مع الواقع الذي نعيشه منذ ثورة البرويطة و لعل هذا السيل العارم من المهمشين و الغاضبين الذين أحرقوا مقرّات حركة النهضة قد أثبتوا أنهم فى خلاف شديد مع هذه الشعارات و مع رافعيها في الحركة الذين لم يخجلوا بوصف هؤلاء المتظاهرين بأبشع النعوت القبيحة و المؤذية للمشاعر مع أنه قد سبق لهم أن وصفوا نفس هؤلاء المتظاهرين المطالبين برحيل الرئيس السابق زين العابدين بن على بالمناضلين الشرفاء و بالثوار الأشاوس.
عشر سنوات من حكم ثقافة التكفير و البلطجة و خرق القانون
نحن في زمن الاختلاف الذي يقضى على أي ودّ محتمل بين المتخالفين و نحن في زمن الغاية تبرر الوسيلة و لذلك نلمح كثيرا من الأحداث المزعجة التي تؤكد أن التطاحن على الحكم إمكانه أن يفرز خلافات و تصدعات و مناكفات حتى بين قيادات الحزب الواحد و هذا ما تمت معاينته في حركة نداء تونس ثم في حزب قلب تونس أو “حزب المقرونة” كما يحلو للتونسيين نعته و قبلا في تجمع أحزاب اليسار و أخيرا في حزب “الناس اللي يعرفو ربّى”.
ذمن المهمّ التذكير بأن حركة لنهضة تتأسى نفاقا و بهتانا بما جاء في سورة الشورى و ترفع شعار “و أمركم شورى بينكم” لكن الميّة كذّبت الغطّاس و عشر سنوات من حكم ثقافة التكفير و البلطجة و خرق القانون قد كانت كافية لهؤلاء المتظاهرين ليخرجوا الى الشارع معبرين بأعلى الصوت بأنه لا مكان لحزب لا يؤمن بحق الاختلاف و لا يفقه أصول التعامل مع مقتضيات الإسلام المتسامح.
* كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك