تقول آمنة الرميلي الفائزة مساء الثلاثاء 31 أوت 2021 بجائزة الابداع الادبي باللغة العربية عن روايتها “شط الأرواح ” (الكريديف 2020) في تدوينة نشرتها على حسابها بالفايسبوك ما يلي:
“الكريديف..أجمل الجوائز، أهديها إلى كل أحبتي وأصدقائي الذين باشروا بنشر خبر التتويج على صفحاتهم قبلي، واحتفلوا بالجائزة من قلوبهم وأشاعوا في قلبي من الفرح ما يجعلني أزداد إيمانا بأنّ الحب والفن هما إكسير الحياة..
قدّاش نحبّكم!”. مبروك أيتها المبدعة!
و سبق للروائية المتألقة أن اختارت هذا المقطع من “شط الأرواح” و نشرته على صفحات التواصل الاجتماعي :
“من المقاطع التي كتبتها بشغف أدهشني أنا نفسي في “شطّ الأرواح”..
لو تدرون قدَر هذه الشخصية!!
“أغادر السيّارة ولا شيء في ذاكرتي من سائقها إلّا كتلة قفاه المحلوقة جيّدا
ورقبته القويّة يلمع سوادها بالصحّة والشباب، وإلّا حركة صغيرة من يده المرفوعة يردّ بها على “بالسلامة”. أتابع السيّارة الكبيرة الفارغة تطير على حافة البحر حتّى تختفي مع منعرج النخيل الأوّل..
متى تأتي الأخرى يا ربّي؟! يجيبني ربّي بدفقة من رائحة خبز الطَّابُونَة الساخن تملأ حواسّي كلّها، أنفي ودمي وروحي، يتيقّظ جوعي كعملاق الخرافات. أبدو في كفّ الجوع ريشة ملهوفة تطير في كلّ الاتّجاهات؟ خبز طَابُونَة هنا؟ في هذا الشاطئ المتوحّش؟! أبحث على الجانبين، ألتفت بلهفة إلى غابة النّخيل تنحني في صمت أمام البحر، في الغابة يُنضج بعض البحّارة الخبز، لا تفسير إلّا هذا، أهمّ بالجري ناحية النّخيل المنحني باتّجاه البحر ينوس بأنسام المساء وحمرة الشمس المائلة..
توقفني حركة تأتي من وراء البرّاكة الخشبيّة المتداعية عن يميني.. أصيح بكلّ خوفي وجوعي:
ــ ثَمَّة حدّْ؟!
تمرق من وراء البرّاكة تدفع أمامها عربة صغيرة، تفوح بروائح الخبز والزّيت السّاخن. تتعطّل كلّ المعاني وأنا أتابع حركاتها وابتسامتها البديعة. بياض أسنانها المرصوفة بإتقان ربّاني مدهش وسط سواد وجهها اللّامع. أتعطّل كلّيا وهي تقف بعربتها أمامي، تبتسم لعينيّ المفتوحتين من الدّهشة والفرح:
ــ تعملين هنا؟!
يكون هذا سؤالي الأوّل أوجّهه إلى عينيها القهويّتين الواسعتين. تهزّ رأسها بالإيجاب دون أن تنقص شيئا من مساحة بسمتها. آكل بعينيّ الأرغفة المرصوصة فوق بعضها في إغراء لا يقاوم بحمرتها النّاريّة وحبّات السّينوج السّابحة على سطحها. أبادر إلى البحث في حقيبتي عن الفلوس.. توقف بحثي المحموم:
ــ كلي أوّلا ثمّ ادفعي الثمن بعد ذلك.
أرتمي على الرغيف الأوّل، أنهشه مغمضة العينين، لا أكاد أمضغ منه شيئا، أبلعه في بضع ثوان، أمدّ يدي إلى الرّغيف الثاني. أراها تصبّ شيئا من الزيت في الصحن الصّغير الفارغ:
ــ اغطسيه في الزيت.
صوتها شفّاف، فيه بحّة صغيرة تذكّرني بصوت أمّي حين نتحدّث في أمر ما بصوت خفيف لأنّ أبي بالبيت.. أرفس قطع الخبز الطازج، يفور بالحرارة واللذّة في الصحن المترع بزيت الزيتون.. أرمي باللّقم في فمي وألعق الزيت الأخضر من فوق أصابعي وشفتيّ.. أرفع إليها عينيّ بين اللّقمة والأخرى، تتابعني بتلك البسمة البيضاء الثابتة، وترقبني بسعادة بين رموشها الطويلة حول عينيها القهويّتين الواسعتين.. أمتلئ، يتراجع عملاق الجوع المتوحّش ليصبح كائنا قميئا في حجم قملة! أسوأ ما فينا الجوع، أجمل ما فينا الجوع! تمدّني بمنديل أبيض مبلول يفوح برائحة الصّابون الأخضر:
ــ امسحي يديك!
أمرّر أصابعي على المنديل، أمسح شفتيّ، أحبّ رائحة الصّابون الأخضر تفوح بالجدّة والنّظافة. أمّي لا تغسل إلّا به ومرّرتْ إليّ حبّه، يسخر منّي مراد حين أصرّ على اقتناء قوالب الصّابون الأخضر.. مَلّا تْڤوعِيرْ! لا ألتفت إليه، حين تأكل رائحة الصّابون مسامّي أشعر أنّني نظيفة حقّا. أردّ إليها المنديل، ألاحظ دقّة أصابعها الطّويلة وهي تأخذه من يدي:
ــ كيف أشكرك أختي؟!
ــ هذي خدمتي عزيزتي!
تمدّ يدها إليّ وتأخذ المال من يدي، بضع قطع صفراء وبيضاء، لا تتجاوز ثلاثة دنانير وجدتها في قاع أحد جيوب الحقيبة الخارجية.. أتابعها وهي ترمي بالقطع المعدنيّة في قاع كأس بلاستيكيّة سوداء اللّون وعيناها إلى البحر تراقص زرقته النسائم وخيوط الشمس الهابطة إلى مستقرّها.. رقبتها طويلة والثوب الأبيض الفضفاض يكشف بسهولة عن جسد متقن الهندسة. شدّني بياض الثوب الناصع ونظافته التي لا أتوقّعها على امرأة تصنع الخبز وتدفع أمامها عربة عليها كانون غاز صغير وطاجين حديديّ في حجم صحن وقارورة زيت بلّورية مملوءة حتّى عنقها الصّغير وصحن فخّار أبيض صغير صبّت لي فيه الزيت منذ قليل وكأس بلاستيك أسود ترمي فيه النقود، والثوب عليها شديد البياض والنّظافة كأنّها لبسته من قرطاسه للتوّ.. تلتفت إليّ بكلّ عينيها. تبدو مذهلة في بياضها النّاصع وسوادها اللّامع، تهمّ أن تقول شيئا قبل أن يمرق سؤالي السّخيف من لساني:
ــ تحبّين البحر؟”.
شارك رأيك