إنّ الطفرة التكنولوجية التي نعيشها منذ عقدين جعلت الشعب التونسي ينقسم إلى فئتين : فئة ترغب في تعصير الإدارة العمومية و رقمنة خدماتها ربحا للوقت و الجهد و المال وفئة تخشى التعامل مع التطبيقات و البرمجيات فمنسوب الثقة لديها في هذه الآليات الحديثة ما زال ضعيفا ومُتدحرجا.
بقلم ميلاد خالدي *
ما إن تقع عيناك على العنوان “الدولة الورقية والشّعب الإلكتروني” حتى ينتابك انطباع أنّ هناك جسمان يعيشان في عصرين متقابلين، كلّ يبحث كيف سيُزيح الآخر ليتصدّر المشهد. لكن هيهات، فالإثنان يتطلّبان تحوّلاً ممنهجا و وعيا ثوريا صادقا و مُمتدًّا.
الدولة الورقية…
الدولة الورقية هي تلك الدولة التي لا يُعتمد عليها ولا تدوم، وكأنّها تُذكرك بالألعاب الورقية التي مآلها الاندثار والتفكّك. هناك لسوء الحظّ من يعمل على إطالة مدّة الاندثار والتفكّك، و قبل أن يصلوا إلى ذلك التفكّك النهائي يعيدون دورة اللعب بدواليب الدولة المهزوزة. الدولة الورقية هي دولة ضعيفة واهنة قادرة على السقوط في أيّ لحظة لأنّ أعمدتها قُدّت من ورق مُقوّى ولا تملك من القوّة سوى المُسمّى.
هناك من يقول إنّ ضعف الدولة من ضعف الخدمات الإدارية المثقلة بالأوراق والوثائق. لماذا لا يتمّ تعميم استعمال الرقمنة في كامل الإدارات التونسية، طالما أنّ قانون أكتوبر 2020 ينصّ على تطبيق إجراءات التبادل الالكتروني للمعطيات بين الهياكل والمتعاملين بها ؟ الإجابة هي كالآتي: هناك أقليّة نافذة في تونس ماليا و نفوذيا و سياسيا لا تريد لذلك المشروع أن يرى النور لأنّه يمنع عنها سيل مصالحها و يُقلّص حجم مرابيحها، إذْ جُبلوا على الانغماس في سواد الحبر و التستّر بالبياض بتعلّة أنّهم حريصون على الوضوح والشفافية. كما أنّهم جُبلوا على الاستئثار بالملفّات والظروف و احتضانها كجزء من ملكيتهم الخاصّة.
هذه الفئة المُتنفّذة أو إذا اصطلحنا على تسميتها بالأولغارشية الجديدة Nouvelle Oligarchie، عناصرها مُنغمسة في الأوريغامي Origami أو فنّ طيّ الورق وهو من الألعاب اليابانية التراثية البسيطة والدقيقة. هو فنّ الخيال والممكن، فنّ استثمار المورد الوحيد وهو الورق ليصنعوا منه و يُبدعوا نماذج و مُجسّمات تُبهر الناظر و تُثلج صدر الرائي. النزر القليل لإنتاج الكثير. هذا الطيّ الرمزي يأخذ منحى آخر في تونس وهو طيّ كلّ قوانين الدولة وسُنن التعامل مع المُواطن، لا سيّما إذا اعتبرنا أنّ أوريغامي الأوليغارشية Origami d’Oligarchie أفرادها مولعون بتثبيت دولة الورق وتكديس الوثائق والملفّات أوّلا لحجب صفقاتهم وعيوبهم فيها وثانيا لإغراق ذلك المواطن البسيط بأشياء تُكبّله وتخنقه. إدارة تطلب منك الكثير لتُعطيك النزر القليل وإن وُجد.
دولة صغيرة كدولة استونيا في الشمال الشرقي لأوروبا، تُناهز مساحتها مساحة ولاية تطاوين، هي أولى الدول في العالم يقع رقمنة جميع تعاملاتها الإدارية والخدماتية و المالية منذ سنة 1997. حيث أطلقت مبادرة E-Estonie أو استونيا الالكترونية لتحقيق هدف الدولة الرقمية الأولى في العالم ولتكون بالتالي النموذج الأوّل القابل للترويج والنمذجة فهو لا يُكلّف ميزانيات طائلة كما تفعله التعاملات الإدارية التقليدية السمجة.
فالإدارة الرقمية الذكيّة أصبحت حتمية اقتصادية و مُجتمعية و تكنولوجية تحترم المواطن من خلال توحيد قاعدة البيانات بين الهياكل المعنية دون التغافل عن حماية معطياته و تحصين بياناته الشخصية. فإذا أردنا الوقوف في وجه الفساد الإداري و المالي مالنا إلاّ أن نُفعّل الخدمات الرقمية و الإدارة الذكيّة. فما هو ممكن لغيرنا مُمكن لنا…
الشّعب الإلكتروني…
ليس من الجيّد أن تُغيّر منظومة معيّنة في يوم وليلة، فالشّعب التونسي بطبيعته شّعب محافظ لا يقبل التغيير بسرعة، فمن الأجدر تقسيم المشروع الرقمي على دفعات حتى لا تقع الصدمة الرقمية لا سيّما أنّ ثلث الشّعب التونسي يشكو أميّة رقمية أو عوزا نحو كسب الشاشة الذكيّة. فهذا لا يمنع ذاك، وليس مبرّرا، على العكس، المهمّ أن تتقدّم الإدارة وتُقلّص من حجم الطوابير الواقفة صباحا مساء وتُسهّل على المواطن قضاء شؤونه. فمن الأفضل أن يقع ذلك على هاتف ذكّي في خلوة من خلوات ذلك المواطن الصامد على الوقوف. شعب يلهث و يستغيث، أين الإدارة الرقمية لاستخراج وثائقي الرسمية؟ أين خلاص الفواتير باستعمال المنصّات الرقمية؟ أين النقل الذكي؟ أين الصحّة الذكية؟ أين الرجل الذكي؟ أين نحن؟
في الواقع، إنّ الطفرة التكنولوجية التي نعيشها منذ عقدين جعلت الشعب ينقسم إلى فئتين : فئة ترغب في تعصير الإدارة العمومية و رقمنة خدماتها ربحا للوقت و الجهد و المال وفئة تخشى التعامل مع التطبيقات و البرمجيات فمنسوب الثقة لديها في هذه الآليات الحديثة ما زال ضعيفا ومُتدحرجا. فثقة المواطن تكمن في الوثيقة كضمان ملموس، فهو ما زال يُحبّذ أن يلمس الورق و يشمُّ الحبر حتى تدبّ في نفسه السكينة و يطمئنّ على مسار ملفّه الإداري. رُبّما تكون هذه الفئة غير جاهزة ذهنيا أو سلوكيا لتقبّل نمط عمل معيّن سريع و مُتقن أو مازالت تستبطن الإجراءات الروتينية في ظلّ عملية introspection فظيعة أو مازالت مُتمسّكة بثقافة الطوابير أو يروق لها سماع “عُد غدا… فإنّ غدًا لناظره قريب”.
لو تدري الدولة الورقية أنّ مستقبلها صار مزعجا و مصداقيتها مهترئة، لسارعت بالبحث عن البديل. فالبديل الجيّد هو تسيير إداري رقمي لصالج شعب الكتروني، ذلك الشّعب الإلكتروني الذي يطالب ببنية تحتية رقمية قويّة دون أن نسمع أزيز الإسطوانة المشروخة “السيستام طايح” أو شبكة التغطية تشتغل بنظام الريّ قطرة قطرة.
في فترة تفشّي وباء الكورونا وقفنا على أهميّة التعامل الرقمي مع الإدارة، كما وقفنا على تردّي المنظومة الإدارية و الصفوف الطويلة التي تتّكىء على حافّة رصيف جائع ومتآكل، للظفر براتب شهري أو خلاص حوالة أو فاتورة أو لاستخراج وثيقة يتيمة عليها طابع مسؤول الإدارة الأغرّ.
الشّعب الإلكتروني الحقيقي هو الذي له حقّ الولوج إلى ملفّه الصحّي أو الأمني أو الضريبي بمجرّد نقرة على الهاتف الذكيّ، ملفّ تحويه قاعدة بيانات مدمجة ومشتركة بين الإدارة والمواطن، حيث تتولّى الدولة تأمينها ضدّ كلّ عمليات القرصنة و الانتهاك.
فالدولة الورقية لا تقوى على الصمود أمام الشعب الالكتروني الحالي والقادم حتى و إن كانت فئة هامّة منه تأبى التحوّل الرقمي و فئة أخرى ضالّة مُستكرشة تقف حائلا أمام التطبيقات و البرمجيات و المنصّات لأنّها تراها لصوص الكترونية غير مرئية… والخوف كلّ الخوف من اللصوص المرئية و غير المرئية.
* كاتب و مترجم.
شارك رأيك