تدهورت المقدرة الشرائية في تونس بأربعين بالمئة على الأقل منذ عشر سنين و هذا يعني أن العائلة التونسية فقدت تقريبا نصف قدرتها الشرائية في هذه المدّة. النقاش يكاد يكون متمحورا على تخفيض اصطناعي للأسعار و طريقة التحكم فيها و إعادة النظر في مسالك التوزيع بطريقة سطحية. هذه السياسات ستفشل في تحسين القدرة الشرائية للأسباب التي سأذكرها.
بقلم فوزي بن عبد الرحمان *
تونس هي من المدن المتقدمة في العالم مقارنة بالأسعار العالمية. انخفاظ الأسعار استثناء و ليس قاعدة و عواقبه وخيمة مثل التضخم. فيما يخص المواد الفلاحية، 40 بالمئة فقط من المواد تمر عبر مسالك التوزيع المهيكلة.
القطاع الفلاحي في تونس لم يعتبر في دولة الإستقبال الي اليوم قطاعا اقتصاديا. و تكاد تكون كل معاملاته في الاقتصاد غير المهيكل. التحكم في هذه الأسعار مستحيل و لا يحل مشكلة عدم التوازن المريع للقيمة المضافة.
بالنسبة للتجهيزات و المواد الاستهلاكية الموردة فهي تستورد معها تضخما و تتأثر بقيمة الدينار. هذه المواد تمثل قسما هاما من استهلاك العائلة التونسية (يكفي أن تمر في أروقة المغازات الكبرى لإدراك نسبة المنتوجات المستوردة و تلك المحلية).
العمل على الأسعار و المسالك هام و لكن القدرة الشرائية تبقى مرتبطة بصفة أهم بمستوى الأجور و المداخيل و هذا النقاش يكاد يكون منعدما. القدرة الشرائية لعائلة تونسية متوسطة أقل بنسبة 7 إلى 10 مرات لعائلة متوسطة في بلدان الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
أسعار الضفة المقابلة ليست اقل من أسعارنا و لكن نسبتها من الدخل أقل بكثير. قارن مثلا كم من أجرة شهرية ضرورية لشراء سيارة أو دراجة نارية أو منزل متوسط أو تذكرة طائرة بين الضفتين و ستجد النسب المذكورة.
مستوى الأجور في تونس هو من أكثر المستويات تدنيا في إقليمنا الجغرافي حتى بالنسبة إلى بلدان مشابهة. و هذا له تفسيره الذي يرجع إلى البنية الاقتصادية و إلى منوالنا التنموي منذ عدة عقود و كذلك وجب التذكير به إلى مستويات متدنية للإنتاج و الإنتاجية.
أجور الإنتداب في القطاع العام أعلى من مستوى القطاع الخاص و لكن السيرورة المهنية لا تنعكس على تطور الأجور و الفرق بين أجر المنتدب الجديد و الموظف القريب من التقاعد لا يكاد يذكر مما يجعل القدرة الشرائية للموظف تنخفض بمرور السنين.
في القطاع الخاص، مستوى الأجور متدني جدا إلا في بعض الاختصاصات و السيرورة المهنية تنعكس بصفة أفضل في مستوى الأجور و خاصة بالنسبة للإطارات.
الخلاصة من كل هذا أن المقدرة الشرائية هي مرتبطة بالأسعار طبعا و لكن التحكم فيها ليس بالأمر الهين و يحتاج إلى إعادة هيكلة للاقتصاد الوطني و هو مرتبط أساسا بمستوى الأجور و كذلك بمستوى الإنتاجية.
تحسين مستوى الأجور يقترن في أذهان العديدين بالتضخم و الحقيقة أن التضخم يقترن أساسا بضعف الإنتاجية و لا بالزيادة في الأجور.
مستوى الإنتاجية في بلادنا متدني جدا و لكن الحديث عن ذلك لا يعجب لأنه يجرنا للحديث عن مشاكل صعبة الإدراك و معقدة منها : منظومتنا التربوية و التكوينية، طببعة علاقاتنا الاجتماعية، طبيعة نسيجنا الاقتصادي، تركيبة منوالنا الاقتصادي، عقدنا الاجتماعي و ثقافة العمل في مجتمعنا.
خاتمة القول ان السياسات المعتمدة حاليا للتخفيض الاصطناعي و السياسي للأسعار لن تكون ذات جدوى مستديمة و لن تحسن القدرة الشرائية للمواطنين. و هي لا تعدو إلا أن تكون مضيعة لوقت ثمين للتفكير الجدي و العقلاني لتطوير الإنتاج المحلي و تحسين إنتاجية العمل و تحسين مرتبط و هام لمستوى الأجور في بلادنا.
* وزير سابق للتكوين و التشغيل.
شارك رأيك