الحرس الوطني في تونس لا يمكن أن يكون شرطة ثانية ولا جيشا رابعا، فهو “قوة عمومية وُسطى” لها من الصّبغة العسكرية ما يِؤهلها لإسناد الجيش عند الاقتضاء وفي حالات قصوى، وتتمتع بمسؤوليات كاملة في حفظ الأمن العام ومباشرة الضابطة العدلية والإدارية على كامل مرجع نظر الحرس (خارج مواطن العمران)، مع تعزيز هيكل الشرطة عند الضرورة وفي ظروف محدّدة ومجالات معيّنة.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
لو رجعنا إلى أيّ صفحة من صفحات التاريخ، لوجدنا الأدلّة الواضحة على قيمة المؤسسات الأمنية في حياة الشعوب. ولعلّ أحد أوجه انتصار النخبة السياسية المقاومة للاستعمار على هذا المستوى كان في استبقاهم مفاوضات الاستقلال والاتجاه الى تكوين تشكيلات من الفلاقة والمقاومين والكشفيين والدستوريين لمساعدة الحكومة برئاسة الزعيم الحبيب بورقيبة على الوقوف بأقدام ثابتة على الأراضي التونسية المحرّرة. وأعتقد أنّ من أهم إنجازات تلك المرحلة تأسيس سلك الحرس الوطني في 6 سبتمبر 1956، كهيكل متجرّد من الولاءات للأشخاص أو الأحزاب باستثناء الولاء للوطن.
إحياء تقاليد وتراث السلك
لقد كان الرهان الحقيقي للسياسة الأمنية في تلك المرحلة دعم الخصوصيات الثقافية لكل سلك بعد تونسة “هيكل الشرطة” على اعتبار أنها أقرب طريق للتكامل وأبلغ مثال للتعاون. لقد عشت ذكريات أعياد الحرس الوطني “ذكرى تأسيس السلك” واحتفلت مع أبناء جيلي بهذا اليوم لسنوات مثلما تقتضيه التقاليد الأمنية العسكرية في ثكنة العوينة وخارجها. وشاركنا زملائنا في الشرطة احياء عيدهم واحتفالاتهم في كنف الاحترام المتبادل.
ومع توحيد أعياد قوات الأمن الداخلي “زمن بن علي” في 18 أفريل من كل سنة “عيد تونسة الأمن” الذي أصبح “عيد قوات الأمن الداخلي”، أُفرغت حفلات الترقية والتوسيم والبرامج الاحتفالية في نظري من التحفيز الثقافي الذي يتميّز به كل سلك رغم البرنامج الثري. ومع قرار الاستغناء سنة 1988 عن تسمية الحرس الرئاسي وعن سرية الشرف التابعة للحرس الوطني وتعويضها بأمن رئيس الدولة “الأمن الرئاسي”، تأكدت النوايا تجاه السلك.
إنّ البحث عن بناء مستقبل أفضل لمؤسسات الدولة يفترض عدم المساس بأصالة الماضي والمحافظة على الحاضر. وأنّ التقاليد في الهياكل مثل المجتمع تعتبر عوامل مهمة يجب أن تراعى، فأيّ تغيير مخالف ومُسقط سيكون عرضة للنبذ وعدم القبول. لا شك أنّ لكل مرحلة مقوّماتها السياسية والأمنية التي قد تختلف في كثير أو قليل عن المراحل السابقة لذلك أرى من الضروري استعادة إرث الحرس الوطني وإحياء تقاليده في إطار استعادة الدولة وإقرار ما يقتضيه الوضع من إصلاحات.
تكريس مفهوم “القوة العمومية”
إنّ قيمة المؤسّسات وهياكل الدولة هي من قيمة النصوص التي تَحكُمها، فالنص المرجعي يقود الممارسة في المطلق لينتظم بعد ذلك الأداء ويَتفعَّل. وفي هذا السياق ارتأيت الحديث عن مصطلحي “القوة العمومية” و”القوة المدنية المسلحة” المعتمدة أمنيا وما تقتضيه الضرورة من مراجعة إذا ما توفّرت الإرادة السياسية.
لقد أصبحت القوة العمومية منذ إقرارها ضامنة لقوة القانون بحكم ارتباطها بالسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وبمقتضى ذلك أصبح اعتماد المصطلح تأكيدا على أن هذه القوة ليست بيد “الحاكم” أي “الإرادة الفردية” التي تجعلها قوة خاصة يُستنجد بها للتّسيير الأحادي لأمور الدولة، وإنما هي قوة خاضعة “للإرادة العامة”، مصدر السلطة وصاحبة القرار وعلى هذا المعنى فهي قوة وطنية في خدمة الشعب.
وخلافا لذلك أورد القانون الأساسي العام عدد 70 لسنة 1982 مصطلح “قوة مسلحة مدنية” في فصله الأول، وفي نفس السياق اعتمد الفصل 2 المتعلق بالنظام الأساسي الخاص لسلك الحرس الوطني هذا المصطلح. وفي رأيي أن هذا الخيار غير مناسب ويتطلب المراجعة على اعتبار أن اللجوء الى هذا المصطلح كان مردّه ربما بيان الفرق بين الهياكل الأمنية والقوات العسكرية، على غرار التمييز بين المحاكم المدنية والمحاكم العسكرية، أو توسيع المفهوم ليشمل الأسلاك الفرعية للزي المدني لدى البعض، وعموما فهو فاقد للدلالة والملائمة ومثير للغموض والالتباس على مستوى الأمن بشكل عام.
وفي تدرّج لفهم هذه المسالة، تعتبر “القوة المدنية” في المطلق نتاجا للقوة العلمية من حيث امتلاك أسباب العلم والتكنولوجيا، وهي مجالات تعود مسؤولياتها لهياكل الدولة المدنية وتدين بها منظمات المجتمع المدني ولا تندرج ضمن الرؤى والقيم الأمنية التي تتركّز أساسا على الدفاع عن الدولة وانفاذ القانون.
ومن البديهيات أن تنسجم المصطلحات الأمنية مع عمقها التاريخي، فالحرس الوطني منذ تعريفه كقوة عمومية في أول قانون أساسي أصبح حاملا لقيم انسانية ” حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة التي لا تُنقض” شأنه في ذلك شأن الهياكل المماثلة له دوليا وذلك وفقا للمادة 2 للإعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1789 والتي تنص على أنّ “ضمان حقوق الإنسان والمواطن يستدعي وجود “قوة عمومية”، وتشكّل هذه القوة للسهر على مصالح الجميع، وليس على مصلحة أولئك اللذين أوكلت إليهم تلك القوة.
ومن الثغرات الملفتة للانتباه والتي تحتاج الى المراجعة في دستور 2014 تعرض المادة 18 منه إلى ان الجيش جمهوري قوة عسكرية تقوم على الانضباط في حين لم ينسحب هذا التوصيف على الهياكل الأمنية في المادة 19. والحال أنه لا يمكن تصوّر تأدية هذه الهياكل لمهامها دون انضباط وتسليح.
القطع مع فكرة الإدماج
مخطئون أولئك الذين يستوحون الماضي ويبالغون في استيحائه، ولكن من المهم تأمل التاريخ واستخلاص العبر منه، لذلك جدير بنا اليوم أن نذكّر وأن المرسوم المتعلق ببعث هيكل الحرس الوطني ليس فقط وثيقة ميلاد “سلك” وإنما وثيقة اعتراف باسم السيادة الوطنية بضرورة التواصل مع الروح النضالية لقوة نظامية. ولعل في توزيع هؤلاء المناضلين عبر وحدات صغيرة في مختلف جهات البلاد ما يشير الى التجسيد الفعلي للنظام.
استغرب فعلا من تواصل الحديث منذ 2011 الى اليوم عن فكرة الإدماج بين الشرطة والحرس الوطني. لقد انطلقت هذه المحاولات منذ السنوات الأخيرة للستينات عبر “المحاولة الفاشلة” لدمج التعاونيات لتتوطد في السبعينات وتصل الى محاولة إنهاء وجود الحرس وإدماجه على اعتباره “شرطة ريفية” (الأمر عدد 405 لسنة 1972). لقد كانت التعديلات عبثية وفوضوية ولم تَقُد إلا للفشل.
لم يكن البحث عن الإدماج وسيلة لرفع الكفاءة، ولم تتّجه الرؤية إلى إحداث تغييرات فاعلة في الأساليب والمفاهيم السائدة، بل كانت مستجيبة لغايات وأهداف ضيقة ومعينة. لا أحد يعارض الإصلاحات شريطة أن تكون دائما بمنظار المصلحة العامة.
وعلى هذا المعنى فالحرس الوطني لا يمكن أن يكون شرطة ثانية ولا جيشا رابعا، فهو “قوة عمومية وُسطى” لها من الصّبغة العسكرية ما يِؤهلها لإسناد الجيش عند الاقتضاء وفي حالات قصوى، وتتمتع بمسؤوليات كاملة في حفظ الأمن العام ومباشرة الضابطة العدلية والإدارية على كامل مرجع نظر الحرس (خارج مواطن العمران)، مع تعزيز هيكل الشرطة عند الضرورة وفي ظروف محدّدة ومجالات معيّنة.
تحية لسلك الحرس الوطني في عيده، وكل التقدير لهذه المؤسسة التي كانت ولا زالت معقل الفداء والوفاء.
* عقيد في سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك