الوحدة الوطنية أصعب من أن تتحملها القلوب المتنافرة و هي مطلب ظلت تنادي به أغلب الشعوب في أي دولة في العالم عندما تشتد بها الخطوب و تنزل بها نوائب الدهر، و يضيق عليها خناق الفرقة و تونس ليست في أقصى الغايات على قلب رجل واحد فحتى لحظة التحام الشعب برئيسه ليلة ال25 من جويلية الماضي فبقدر ما كرست رغبة في التخلص من جروح مرحلة قد انقضت، بقدر ما فتحت أبوابا على مصير بدا يدخله الشك و الخوف أمام ضغوط من الداخل و الخارج و يلعب فيه الوقت دوما عنصر الحسم.
بقلم ياسين فرحاتي *
تذكرنا العبارات المتعلقة بالتغيرات صلب المجتمعات بفلسفة ماركس و التي جوهرها ذلك الخلاف التاريخي الحاد في تأزم العلاقة بين طبقة رأس المال و الطبقة الكادحة و بين الحاكم و المحكوم بسبب رغيف الخبز و استغلال من بيده وسائل الإنتاج لقوة العامل مما يخلف إحساسا يسمى الاغتراب.
الوضعية لم تكن في مضمونها العام بعيدة عن هذا الإطار، طبعا لسنا في نفس أجواء المانيفستو الشيوعي و لا في نفس رقعة الجغرافيا و لكن ما يجمعنا كوننا بشر و قد تتكرر نفس المآسي و تتوفر نفس الظروف لتؤدي بالتالي إلى نفس النتائج و كأننا امام حتمية تاريخية.
ذلك أن عبقرية ماركس تتجلى في كون فكره هو عالمي لا يتوقف عند بلد بعينه و هو أثر و لا يزال يؤثر بشكل قوي إلى حد اللحظة لأننا ببساطة لا زلنا نعيش على وقع استتباعات ثورات الربيع العربي و ما أعقبها من ثورات مضادة حسب البعض و حركات تصحيحية في نظر البعض الآخر في أكثر من قطر عربي من بينها تونس.
الحياة مبنية على تضاد الأشياء و على التغيير المستمر
“الصراع هو أب كل الأشياء” : هذه أول الدروس التي استقيناها من جدلية الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، و هو ما مهد لظهور الديالكتيكية لدى هيجل و من بعده ماركس. و معنى ذلك أن الحياة مبنية على تضاد الأشياء و على التغيير المستمر ف”لا شيء ثابت سوى التغيير”. فلا الثوار أو الثورجيون ثابتون في أماكنهم أو مواقعهم و لا الديمقراطية مرحلة و لا الاشتراكية أو الرأسمالية أرست قواعد المجتمع السليم و انتهت و حسم أمرها و لا الدستور قرآن خالد لا يجوز أو يمنع منعا باتا المساس به.
بناء على هذا التفسير، تبدو الدولة و مؤسساتها و نظامها السياسي أمورا و مسائل نسبية و موكول أمرها إلى الزمن و قابلة لإعادة التأويل بمنطق فقهاء القانون.
إن الظروف الطارئة أو الحالات الاستثنائية كالازمات هي إحدى محركات التغيير داخل بلد بعينه مثلما حدث في تونس، و في اعتقادي أن الدول الهشة مثلما هو حال بلدان وطننا العربي غير قادرة بحكم عدم قدرتها على التماسك الداخلي و مع تقاسم المصالح في ما بين سكانها في إطار سياسة المحاور، أن تتحمل التبعات الثقيلة لقيام ديمقراطية حقيقية و هي غير متحررة اقتصاديا و ثقافيا و عسكريا من قوى السيطرة الدولية. مثال ذلك مجموعة السبع.
الوحدة الوطنية أصعب من ان تتحملها القلوب المتنافرة و هي مطلب ظلت تنادي به أغلب الشعوب في أي دولة في العالم عندما تشتد بها الخطوب و تنزل بها نوائب الدهر، و يضيق عليها خناق الفرقة و بلادنا ليست في أقصى الغايات على قلب رجل واحد فحتى لحظة التحام الشعب برئيسه ليلة ال25 من جويلية الماضي فبقدر ما كرست رغبة في التخلص من جروح مرحلة قد انقضت، بقدر ما فتحت أبوابا على مصير بدا يدخله الشك و الخوف أمام ضغوط من الداخل و الخارج و يلعب فيه الوقت دوما عنصر الحسم فكأنك في حلبة صراع مع ميكيافيلية مالية و اقتصادية بطلاها صندوق النقد الدولي و البنك الدولي و كذلك مؤسسات التصنيف السيادي.
بالعودة إلى ذلك الهرم المعروف الذي رسمه لنا ماركس ذات يوم و فيه يتحدث عن البنى الفوقية و البنى التحتية نجد أن الاقتصاد هو المحدد لمصائر البلدان و الإتفاقيات الدولية هي مصيدة و مكبلة لأي تحرك مثلا لدولة كتونس خارج فلك القوى العظمى ف”سياسة العصا و الجزرة” بالمرصاد لمن يريد أن يتجاوز الحدود المعقولة الممنوحة.
ذلك أن الرأسمالية المتوحشة تفعل فعلها فينا و ليس لنا من مهرب سوى التأدب معها و التلون مع تلوناتها و عدم التجديف عكس التيار مخافة أن نخسر القوي و البعيد و القريب في إطار سياسة دولية متغيرة و متقلبة و أحيانا عبثية و غير متوازنة و أحيانا كثيرة لا تعترف إلا بالمصلحة الضيقة خصوصا و أن أمامنا عقبات كثيرة تحتاج إلى رباطة جأش.
ديبلوماسيتنا جلبت لنا مئات الآلاف من التلاقيح و المساعدات الطبية و كانت في داخلها حربا علينا و ضد بعضنا البعض بسبب معارك الإسلام السياسي الجانبية و المعلنة و ربما المباشرة و هنا الدين صار بمثابت الأفيون بحسب ذلك التعبير الشهير لماركس نفسه.
و الحقيقة الأكيدة أن الدين يفترض أن يكون عملا موحدا للمشاعر و الأحاسيس و العواطف الجياشة في بلد مثل تونس لا يعرف صراعات طائفية أو مذهبية كحال العراق و سوريا و لبنان أو حتى مصر تهدد إلى حد كبير أركان الدولة و نمط التعايش السلمي تحت سقف واحد و العيش المشترك. ا
هذه ليست نظرة تشاؤمية للواقع و لكنها أمور يصر عليها البعض في إطار مقارنات قد تكون صحيحة و قد تكون خاطئة مثلما ذهب إلى ذلك الرئيس التونسي الأسبق محمد المنصف المرزوقي و الذي حذر من باريس في خطاب موجه إلى الشعب التونسي و في إعتقادي هل مازال يظن أن الكثير سيصغون إليه باهتمام شديد و سيعيرون كلامه العناية اللازمة فهو لا يعد مجرد رقم في مرحلة سياسية طويت صفحتها بإيجابياتها أو سلبياتها.
النقد الجارح و الانتقاد المتبادل و الشيطنة أحيانا أخرى هي السمة الطاغية على الخطاب السياسي و الإعلامي في تونس اليوم، و معارك كلامية تخاض على أكثر من واجهة و مفاهيم قديمة جديدة لم يحسم فيها إلى حد الساعة على علاقة بالثورة و حاليا بالتدابير الاستثنائية المتخذة عقبها و قضية المشروعية هي مربط الفرس.
معركة دائمة بين بورجوازية متحكمة و طبقة شغيلة مقهورة
و هنا أريد أن أفتح قوسا صغيرا لأشير أن على وجه المقارنة أن ما عرفته الدولة التونسية بناء على الفصل 80 من دستور البلاد يشبه إلى حد قريب في نظري إلى تغيير ال7 من نوفمبر و مبرراته كانت تقرير طبي مفصل عن تدهور صحة الزعيم الحبيب بورقيبة و قد عد كلاهما إنقلابين الأول دستوري من وجهة نظر خصومه السياسيين و أطراف أخرى خارجية و الثاني أبيض و ناعم و كلاهما لم ترق فيهما قطرة دم واحدة لقيا في الأمس و اليوم الكثير من التعاطف الشعبي لكن حاليا لا يوجد لدي أي وجه للمقارنة بين زين العابدين بن علي و قيس سعيد فالأول جنرال غير مثقف و الثاني أكاديمي مثقف. و لا أعرف هل يمكن ان يتحول المدني إلى دكتاتور و كيف يمكن له ذلك و هو من يحتسي القهوة مع أصدقائه في مقهى شعبي مع تلاوته و يرفض ان يسكن بقصر قرطاج و قدوته الأولى بعد الرسول الأكرم الخليفة عمر الفاروق!
صدق ماركس عنما أطلق مقولته الشهيرة ” الصراع الطبقي محرك التاريخ” فهي قلب و روح فلسفته الإجتماعية، وهي لا تزال تجد لها إلى يومنا هذا في القرن 21 رغم عديد الإنتقادات الموجهة لها كونها لم تقدم حلا نهائيا لأزمة الإنسان في مواجهة البورجوازية المتنفذة و قضية الاغتراب في العمل وقد يصور البعض منا عندما يحاول الاقتداء بماركس في تفلسفه على أننا لم نكن بعيدين عن معركة إيديولوجية بين بورجوازية متحكمة في كل دواليب الدولة تمتلك المال و السلطة و فاسدة و طبقة شغيلة مسحوقة و مقهورة من موظفين و إطارات جامعية معطلة عن العمل و شباب مهمش.
و ما التحركات الأخيرة و المرتقبة لخريجي الجامعات التونسية المطالبة بالرعاية الاجتماعية و الاقتصادية و الصحية إلا دليل آخر أننا أمام طوفان قادم قد يجرف و يهدم كل شيء إذا لم نتخذ الإجراءات الاستعجالية الضرورية اللازمة و في لحظتها.
الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في أحد المنابر الخطابية يعرف بأمجاده و خلاصه يقول لنا بكل ثقة في النفس و شجاعة : “أنا سياسي مثقف و مفكر أيضا”. و هي حقيقة لا غبار عليها و الخلاصة التي أؤكد عليها أننا نفتقد إلى رئيس مثله يعيد إلى الدولة و المواطن المكانة التي هو جدير بها بكلمة واحدة. عفوا هذا شيء من عالم المثل لأفلاطون!
* كاتب من تونس.
شارك رأيك