تعتمد شريحة هامة من التونسيين على نشاط التهريب كمورد رزق لها حيث تدرّ عليها بعض العائدات المالية التي تتأتى أساسا من الشريطين الحدوديّين المشتركين مع كل من ليبيا والجزائر. فنشاط التهريب الذي لا يخلو من المخاطرة يضمّ عددا من المواطنين وأعوان الأمن على حدّ السواء، وقد كان له الأثر الكبير في إخراج العديد من البضائع من حلقة التبادل التجاري القانونية وإغراقها في مسالك غير قانونية.
بقلم وليد الكسراوي *
التجارة الموازية هي أنشطة اقتصادية ومداخيل غير مصرّح عنها لا تخضع للرقابة للأداءات والضرائب. أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الاقتصاد الموازي هو التهريب، لكن هذا النشاط لا يمثّل الاّ جزءاً من ظاهرة متعددة الأوجه إذ أن مسألة التهرّب الضريبي تمارسها الشركات والمحلات التجارية والحرفيين وأصحاب العقارات المؤجرة من دون عقود وغيرهم كثر.
كما أن تشغيل العمال بلا تغطية اجتماعية وصحية هو أيضا يدخل في خانة الاقتصاد الموازي، فالعديد من التونسيين يعملون في الحقول وحظائر البناء والورشات والمصانع الصغيرة والمطاعم والمقاهي وغيرها من الأنشطة بدون أن يصرح عنهم صاحب العمل.
أسباب ازدهار السوق الموازية في تونس
بدأت هذه الممارسات غير القانونية على الحدود عبر توفير الخدمات التي يحتاجها المسافرون عادة، مثل خدمات الهاتف والصرافة وتوفير الطعام، على قارعة الطريق دون تراخيص في مناطق الجنوب الشرقي، هذه النشاطات كانت تدار علنا لتتطور إلى تهريب لمختلف البضائع الاستهلاكية كالمواد الغذائية والأجهزة الإلكترونية والبنزين، مستفيدين من الفارق الكبير في الأسعار.
كان ذلك يجري على مرأى ومسمع السلطات التونسية التي كانت في الماضي تغض الطرف عن هذا النوع من التجارة الموازية لسببين: الأول هو لارتباط أصهار الرئيس الأسبق وبعض أفراد حاشيته بهذا النشاط عبر توفير التسهيلات اللوجستية وتمويل اقتناء البضائع، بل وتأمين الحماية من الملاحقات الأمنية للمهربين مستغلين نفوذهم وفساد البعض من الجهاز الجمركي.
أما السبب الثاني فهو ما توفره هذه الأنشطة من فرص عمل لعدد ضخم من سكان المناطق الحدودية، وهو ما من شأنه أن يؤمن استقرار آلاف الأسر.
خلقت هذه التجارة مجموعات كثيرة من المستفيدين، الاستفادة كانت جماعية من وسطاء، ناقلي الشحنات، البائعين بالجملة وباعة التقسيط، أصحاب المخازن، وغيرها من المهن المؤقتة أو حتى من رجال أعمال استهواهم الربح السريع.
إلى جانب المهربين امتدّ التأثير الاقتصادي والاجتماعي لهذه الحركة التجارية الموازية ليشمل عديد القطاعات لتنعكس آثارها على كافة المناطق التونسية والتي تؤمن معظم حاجات الفئات محدودة الدخل، أو حتى الطبقة الوسطى، التي انخفضت مقدرتها الشرائية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
حجم التهريب بين تونس و جيرانها يصل 1.13 مليار دولار سنوياً
ذكشف تقرير أصدره مؤخراً البنك الدولي حجم التجارة الموازية والتهريب على الحدود التونسية الليبية والحدود التونسية الجزائرية، مشيرا أن التهريب يمثل أكثر من نصف المعاملات التجارية لتونس مع ليبيا، في حين من الصعب تقدير مستوى التجارة غير الرسمية مع الجزائر لأنها أكثر انتشاراً وأكثر سرية.
على الرغم من ذلك، يمكن تقدير أن ما يقارب 15٪ بالمئة من البنزين المستهلك في تونس هو من الواردات غير الرسمية من الجزائر. أشار التقرير كذلك أن تجارة الوقود والعجلات المطاطية هي الأكثر رواجاً وتعتمدها أكثر من 60 بالمئة من الشاحنات المشاركة في هذا النشاط وأن التهريب ينشط كثيراً في ميدان السجائر بين تونس والجزائر. وقد بلغ إجمالي حجم التهريب بين تونس ومختلف جيرانها ما يقارب 1.13 مليار دولار سنوياً.
يعتبر هذا الرقم هائلاً بالنظر إلى محدودية السوق التونسية والوضعية الاقتصادية الحالية ويعكس مدى تطور السوق الموازية في النسيج التجاري العام للبلاد.
تداعيات السوق الموازية على الاقتصاد الوطني
يعد هذا النشاط غير القانوني خطرًا حقيقيًا متعدد الأبعاد على الاقتصاد الوطني إذ لا يترك مجالا اجتماعيا أو قطاعًا اقتصاديا إلا استهدفه.
أو ليبيا بل تشمل ايضا قوافل التهريب التي تغادر البلاد محملة بمختلف السلع التونسية خصوصا المواد الغذائية مما تسبب في خسائر فادحة للدولة خاصةً المواد المدعومة مثل المعجنات الغذائية، الزيوت النباتية، الحليب وغيرها، والذي ساهم في عجز الموازنات المالية للدولة من جهة وشح في السوق المحلية لعديد السلع من جهة أخرى وبالتالي ارتفاع أسعارها وضعف المقدرة الشرائية للمواطن، إذ تفيد احصاءات المعهد الوطني للإحصاء أن أسعار المواد المصنعة قد شهد ارتفاعًا بنسبة 7,3٪ في شهر جويلية المنقضي، كما شهدت أسعار مواد البناء زيادة بنسبة 11,1٪ وأسعار الملابس والأحذية بنسبة 7,3٪ و مواد التنضيف بنسبة 6,3٪، أما المواد الغذائية فقد شهدت ارتفاعا بنسبة 6,7٪. كما ساهم انتشار هذه الأنشطة في تراجع الاستثمار الداخلي والأجنبي على حد السواء لعدم القدرة على المنافسة إذا ما اعتمد هذا المستثمر على المسالك الرسمية والقانونية من أداءات جمركية، تكاليف إضافية للنقل والتوزيع بالإضافة إلى معاليم الإيجار أو تكاليف بناء مقر المؤسسة وطاقمها الإداري وغيرها من المصاريف التي لا تشمل المهربين.
كما يمثل التهريب خطرًا حقيقيًا على صحة المستهلك فالسعر المتدني الذي يجلبه للشراء قد يكلفه خسارة صحته خاصة ان أغلب السلع لا تخضع للرقابة التي تضمن حماية المستهلك وبالتالي قد نجد بضائع منتهية الصلاحية يتم تغيير تعليبها أو حتي قد نجدها دون تعليب.
كما يمكن ان نجد مواد أخرى خاصة منها من أصل حيواني من لحوم بيضاء أو حمراء أو منتجات البحر غير متوفرة على شهادات السلامة الصحية وما يمكن أن ينجر عنه من أضرار صحية خطيرة إضافة إلى ضياع حقوقه في التقاضي في صورة اكتشافه لحالة غش أو ضرر.
انعكاسات التجارة الموازية تتسبب إذا في خسائر فادحة للمستهلك وللدولة على حد السواء إذ تقدر الخسائر الجبائية سنويا قرابة المليار دولار منها قرابة النصف خسائر جمركية كما أكد العديد من الخبراء ظهور عدد من الممولين أو ما يسمى بالمصارف الموازية تعمل على تمويل تلك العمليات في الخفاء.
التجارة الموازية و ظاهرة تبييض الأموال
تفاقمت هذه الظاهرة خاصة بعد ثورة 2011 والإطاحة بالنظام السابق فقد عمد العديد من المهربين إلى التخلص من أموال التجارة الموازية عبر عمليات شراء لعقارات أو معدات، شركات تعاني من صعوبات مالية أو حتى بعث مؤسسات جديدة تعنى بصفقات عمومية لمشاريع بنى تحتية وغيرها ثم تقديم أسعار لا ترتقي حتي لتغطية تكلفة هذه المشاريع من خلالها يتم في مرحلة لاحقة دمج أموال التجارة الموازية كمصاريف مع أموال أخرى معلومة المصدر.
رغم تمكن و إتقان المهربين لهذه العمليات يبقى البحث عن غطاء سياسي أنجع طرق الحماية لهم لذالك منذ الثورة عمد العديد منهم إلى الالتجاء إلى برلمان الشعب عبر جهاتهم هؤلاء الذين ازدهرت تجارتهم الموازية ومكنتهم الحصانة البرلمانية من تأمين الحماية اللازمة حتى أنهم تمكنوا من دمج بعض العناصر الأمنية والديوانية كأحد أركان هذه التجارة حتى بتنا نرى العديد من النواب اليوم يباشرون مداولات المجلس ويسنون القوانين وقد وصل بهم الشأن إلى تمرير مشروع قانون عدد 104 لسنة 2020 والمتعلق بإنعاش الاقتصاد وتسوية مخالفات الصرف والذي يتضمن إدماج الأنشطة والعملة المتأتية من الاقتصاد الموازي في الدورة الاقتصادية والذي تم المصادقة عليه في مجلس نواب الشعب في بداية شهر جويلية الماضي بموافقة 110 نائبا، كما تم تمريره إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين لكن لم يتم إقراره لعدم استيفاء شروطه الجزائية في 27 اوت الماضي.
هل المعالجة الأمنية هي الحل؟ قد تكون قرارات رئاسة الجمهورية السيد قيس سعيد يوم 25 جويلية بحل البرلمان وتجميد نشاط نوابه و تحجير السفر عن البعض منهم بالإضافة إلى تشديد الرقابة على الحدود وتكثيف العمليات الأمنية خطوة هامة ومفصلية في محاولة إيقاف التجارة الموازية أو الحد منها لكن ما يمكن إقراره أن الأزمة ليست وليدة اللحظة بل هي تراكمات عدة سنوات من حالة اللاتنمية التي تعرفها البلاد منذ عقود زادتها تفاقما أزمة أخلاقية على مستوى العلاقات والمعاملات على الصعيد الاجتماعي غذتها حالة الانفلات الأمني ما بعد الثورة و حالات الإفلات من العقاب.
الثابت أن الثورة قامت لمحاربة الفساد ولتمكين الناس من حقهم في العيش الكريم والثابت أيضا أن الوضوح والشفافية وتقنين النشاطات التجارية لكن السؤال الأهم الذي يطرح هو كيف ندعم هؤلاء المتاجرين الموازيين على ضمان حياة كريمة بدون اللجوء إلى هذا النوع من التجارة التي تكون انعكاساتها الوخيمة على المستويين الفردي والجماعي وكذلك على أداء الدولة التنموي وواقع المجتمع الحياتي.
معادلة متوازنة لمواجهة السوق الموازية
تعتبر التجارة الموازية مشكل معقد لتعدد أصولها واختلاف أسباب تفاقمها لذلك لا بد من التدرج في إيجاد معادلة متوازنة يتداخل فيها التربوي والثقافي والإعلامي والقانوني وكذلك التنموي والأمني بالاعتماد على :
* تشريك كل الأطراف المعنية مباشرة بها من تجار موازيين ومتضررين ومستهلكين وسلطات.
* تنسيق في أعلى مستوى بين وزارات الصناعة والصحة والتجارة والداخلية والمالية والتربية والشؤون الدينية.
* توفير البنية التحتية الضرورية لكل الجهات المحرومة والقرى والأرياف المهمشة تشجع على الاستثمار .
* تعاون مع إتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وكل رجال الأعمال على إدماج أكثر عدد ممكن ممن استقطبتهم التجارة الموازية.
* العدالة الجبائية وإرساء منظومة ديوانية عادلة وإرساء آليات رقابة متطورة لأعوانها لضمان عدم تورط البعض منهم في هذه الشبكات.
* الأمن والرقابة الفاعلة في مختلف الفضاءات وعلى الحدود.
* تنظيم السوق الموازية عبر التدرج إجرائيا وزمنيا مع المرونة والإصرار على الاستمرار حتى النجاح.
* تفكيك الشبكات المنظمة للتجارة الموازية وتطبيق القانون بكل صرامة على المتاجرين بالممنوعات المستغلين لشبكات التجارة الموازية.
* حملات توعية وبرامج إعلامية وسياسات تربوية وتفعيل المساجد في اتجاه نشر قيم الأخوة والتعاون على النفع العام و زرع روح الانتماء مع تجنب كل ما يساهم في الاضرار بالبلاد والعباد وخاصة تثمين قيمة العمل المحرك الاساسي لرقي اي مجتمع.
* خبير اقتصادي.
شارك رأيك