أنشأت منظومة 14 جانفي 2011 نظاما دستوريا نخبويا منقطعا عن مشاغل الناس الحقيقية و نظرا إلى كونه كذلك فقد جاء منغلقا على نفسه بإحكام شديد… و مع مرور الوقت تبين أن دستور 2014 لم يفعل سوى تحويل مركز النفوذ اللاشعبي و اللاديمقراطي من رئاسة الجمهورية (منظومة 7 نوفمبر) الى البرلمان (منظومة 14 جانفي)… إلى حد أصبح فيه الحديث عمّا أسماه البعض بالاستبداد الديمقراطي… وهو ما أدى بالضرورة إلى الانتفاضة الشعبية ليوم 25 جويلية و ما تبعها من إجراءات اتخذها الرئيس قيس سعيد.
بقلم نوفل سعيد *
إن العقل السياسي الذي اعتمل لدى معظم النخبة السياسية التونسية منذ 2011 كان فاقدا للكثافة و البعد الاجتماعيين لذلك لم تكن له القدرة على إدراك لا منطلقات و لا مآلات المسار التاريخي الذي أفرزته الحركة الثورية المندلعة في 17 ديسمبر2010 و كلّ ما حصل هو إدخال لبعض العناصر اللغوية الجديدة على الخطاب السياسي “الجديد” عناصر لم تكن مألوفة عندئذ من قبيل “دعم الزخم الثوري” و “المحافظة على مكاسب الثورة” و لكن لم تكن هذه المصطلحات تعكس وعيا حقيقيا بمدركات المرحلة و لا إرادة فعلية للاستجابة لمستلزماتها… كانت فقط للاستهلاك السياسي السطحي و لتجديد خطاب سياسي اهترأ و استنفذ أغراضه .. .خطاب 7 نوفمبر 1987 سيء الذكر…
النقص الفادح في تواصل النخب السياسية مع مطالب أوسع الجماهير
في غياب الوعي التاريخي بمنطلقات المرحلة ومآلاتها كان من الطبيعي أن ينتج عقل النخبة السياسية منظومة دستورية تعكس هذا النقص الفادح في التواصل مع مطالب أوسع الجماهير المتمثلة في الشغل و الحرية و الكرامة الوطنية… واتّضح بعد مدّة وجيزة أنّ هذه النخبة في انقطاعها عن مشاغل الناس انّما كانت استمرارا لهيمنة نفس النخبة القديمة التي ثار عليها الشعب في 17 ديسمبر 2010… لم تتغيّر إلاّ القشرة الخارجية التي لم تنفع فيها الرتوق المتتالية… فأخذت في التآكل و الاهتراء الى أن تقطعت إربا في 25 جويلية 2021…
أنشأت منظومة 14 جانفي 2011 نظاما دستوريا منقطعا عن مشاغل الناس الحقيقية و نظرا إلى كونه كان منقطعا عن هذه المشاغل فقد جاء منغلقا على نفسه بإحكام شديد بحيث وضع الأقفال في على كلّ المنافذ تقريبا التي قد تؤدي الى المسّ أو التقليل – عبر آلية الوزن و الوزن المضاد – من قوة البرلمان العظمى في اتجاه إحداث نوع من التوازن بين مختلف السلط… و مع مرور الوقت تبين أن دستور 2014 لم يفعل سوى أن حوّل مركز النفوذ اللاشعبي و اللاديمقراطي… من رئاسة الجمهورية ( منظومة 7 نوفمبر) الى البرلمان (منظومة 14 جانفي)… إلى حد أصبح فيه الحديث عمّا أسماه البعض بالاستبداد الديمقراطي…
لا يمكن لأي دستور أن يحبس الإرادة الشعبية و يأسرها في لحظة تاريخية
نعم دستور 2014 كان وليد انتخاب مجلس وطني تأسيسي… وهو في الظاهر مجلس حظي بمشروعية شعبية… ولكن مخرجات هذا المجلس المتمثلة في دستور 2014 لم تكن تعكس تطلعات أوسع الجماهير… وكان هذا هو الخطأ الجسيم…
لا يمكن لأي دستور حتى و إن كان المجلس التأسيسي الذي وضعه منتخبا انتخابا ديمقراطيا مباشرا أن يحبس الإرادة الشعبية و يأسرها في لحظة انتخابه… فتصبح هي وحدها اللحظة المرجعية الوحيدة للمشروعية الشعبية التي لا محيد عنها… نعم لحظة انتخابات أكتوبر 2011 كانت لحظة ديمقراطية… و لكن لن تكون اللحظة الوحيدة… و لا يمكن أسر الإرادة الشعبية و حبس المشروعية الشعبية في هذه اللحظة… خصوصا و أنّه اتضح فيما بعد أنّ هذا المجلس بفعل المقايضات التي تمّت صلبه قد تنكر لهذه المشروعية و أهملها تقريبا بالكامل… و هو نفس الإهمال الذي تكرّر في جميع محطات الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد فيما بعد…
عندما وضعت السلطة التأسيسية الأقفال على المنافذ التي قد تؤدي إلى المسّ أو التقليل من قوة البرلمان فإنّ الاعتقاد الذي كان سائدا عندئذ لدى القوى المتواجدة داخل المجلس الوطني التأسيسي هو تحصين نفسها بالقدر الأقصى لتأمين استمرارية نفوذها السياسي في المجالس التشريعية التي سيتم انتخابها في المستقبل…
الرئيس قيس سعيد لا أمل للمنظومة القديمة أن تستدرجه أو تستميله
تناسى المؤسسون و غاب عليهم أنّه عندما أغلقوا المنافذ لحماية السلطة التشريعية إنّما هم في الحقيقة قد أغلقوا الفخّ على أنفسهم و عزلوا أنفسهم على أوسع الجماهير… و ذلك بتركهم لفضاءات شاسعة مهجورة ومهملة (و هذا هو التجسيد الفعلي لغياب الوعي التاريخي لدى القوى النتواجدة صلب السلطة التأسيسية)… فضاءات تتحرك فيها الأصوات المنصتة لمشاغل الشعب المغلوب على أمره… في انتخابات 2019 و جدت أصوات الشعب المقهور في قيس سعيّد ضالتها لما لمسته فيه من صدق و نقاء في السريرة و إصرار على تبليغ هذه الأصوات… فأتيحت للشعب عندئذ فرصة تاريخية غير مسبوقة لأن يكون له رئيسا لا أمل للمنظومة القديمة أن تستدرجه أو تستميله… بالرغم من كلّ المناورات التي حبكت من أجل ذلك منذ حتى منذ الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية… الأمل إذن أصبح قائما بأن تصلح الدولة نفسها بنفسها من داخلها…
لماّ تموقع قيس سعيّد في هذه الفضاءات المهجورة اتهمه الكثيرون من “النخبة السياسية” بالشعبوية… بالنظر إلى كون الشعبوية هي بالأساس ربط للصلة بالشعب مباشرة بمعزل عن الهيئات البينية – التي تنكرت لمطالب الشعب – و في مقدمة هذه الهيئات البرلمان… متناسين أنهم هم الذين صنعوا هذه الفضاءات و هم الذين هجروها…
“شعبوية” قيس سعيد هي خشبة نجاة الدولة و الديمقراطية و أملها الأخير
لعلني أسمح لنفس بالقول هنا بدون خجل أو مواربة أنّ ما أتاه قيس سعيّد في 25 جويلية حتى و إن كان يدخل في خانة ما يسمى “بالشعبوية” فقد جاء لينقذ الديمقراطية و لينقذ الدولة التونسية من نفسها … نعم بهذا المعنى علينا أن نقبل أنّ “الشعبوية” هي خشبة نجاة الدولة و الديمقراطية و أملها الأخير… باعتبار أنّها تفتح أمل تغيير و إصلاح الدولة من داخلها (تفعيل الفصل 80 من الدستور يدخل في هذا الإطار) و نفهم هنا كيف أنّ مقولة الانقلاب تندرج في إطار التصدي لهذا التوجه الإصلاحي الجذري من داخل الدولة تحت عناوين من قبيل الشعبوية و الاستبداد.
إن التوجه الإصلاحي الجذري للدولة من داخلها فرصة تاريخية يجب التقاطها و تدعيمها و الارتقاء إليها… لأنّها أنقذت البلاد و سدّت الطريق أمام كل من تحدثه نفسه بالخروج عن الأطر القانونية القائمة في “مسعى إصلاحي” غير مأمون العواقب بعيدا عن كلّ المرجعيات الدستورية…
نعم قيس سعيّد أنقذ الدولة يوم 25 جويلية… و هذا التاريخ يعني في ما يعنيه سقوط نمط سياسي قديم و ولادة نمط سياسي جديد يراد له أن يستجيب إلى الانتظارات المنسية لعموم التونسسين… و الفصل 80 من الدستور يفتح على “شرعية أزمة” (Une légalité de crise) هي بطبيعتها، نظرا للمخاطر الماثلة، تتطلب تجميعا وقتيا للسلطات تحت رقابة الشعب و هي محدودة في الزمن هدفها المحافظة على الدولة و صيانة المكتسبات الديمقراطية وتأمين المرور إلى أوضاع سياسية و اقتصادية و اجتماعية أفضل…
المسعى الإصلاحي الذي قاده الرئيس قيس سعيّد حتى وإن سلمنا بانّه “شعبوي” بالمعنى الإيجابي للكلمة في بداياته هو نهاية لا يمكن أن يكون إلاّ مسعى مؤسساتيا اندماجيا… فتونس ملك لجميع التونسيات و التونسيين… بقي أن الاندماجية المرجوة لا يمكن لها أن تتحقق إلا بعد أن تدرك النخبة السياسية و الاجتماعية أن احداثيات الالتقاء حول مشروع سياسي جديد قد تغيّرت… و لم تعد هي نفسها التي كرّستها منظومة 2014… فلا بدّ من تعديل البوصلة و لا بدّ لتحقيق ذلك أن تعرف هذه النخبة أن ّالنقد الذاتي الحقيقي واجب و المحاسبة العلنية مطلوبة بل و متأكدة. هل هي قادرة على ذلك؟ الله وحده أعلم… و لكن ما نعلمه هو أنّ صيانة الدولة و المحافظة على المكاسب الديمقراطية على الأمد الطويل مرتهنان لهذه الاحداثيات الجديدة…
التونسون جديرون بديمقراطية فعلية … و بدولة تنصت لهم… لا أن تدير ظهرها لهم… أما عن الفضاءات المهجورة فإنها لا يمكن ان تملأ بمضامين هي شعبيا منتهية الصلوحية…
* باحث جامعي في القانون الدستوري.
شارك رأيك