غصّت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات ورسومات تستهزئ بالرئيس التونسي السيد قيس سعيّد، وصلت إلى حدّ الإيذاء والتجريح والتصريح بكلام بذيء لا ينبع من عاقل، مما يوحي أن هناك عُقدة اجتماعية يعيشها كثيرٌمن الأفراد في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ تونس الحديث، وقد تعدّت هذه التجريحات الحالات المسموح بها ممّا يعد تجاوزًا صارخا للمنظومة الأخلاقية العامة التي أرساها ديننا الحنيف وحث عليها تجنبا للصدامات التي تؤذي المجتمع كاملا وتتركه في دوامة من الصراعات الثنائية بين فريقين، فريق مع الرئيس وفريق ضدّه.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد *
ليس عيبا أن تعارض رئيس الجمهورية أو أي مسؤول كان، ولكن العيب الكبير يكمن في التعدي على شخص الرئيس وهيبته لأنه يمثل الدولة التونسية مهما صدر منه من أقوال أو أفعال أو قرارات. فهيبة الدولة مقترنة بشخص رئيس الجمهورية، وإذا ضاعت هذه الهيبة صار الرئيس ورقة كرتونية يعفس عليها من يشاء ويمر عليها مرور الكرام ولا يبالي بما يفعله وما يصدر منه من أقوال وأفعال هجينة.
ما نشهده في تونس هذه الأيام سخرية تعدّت كل الحدود وتحدّت كل الأعراف، إذا لا يُعقل أن يستمر المعارضون المشاكسون في السخرية والاستهزاء بهذه الطريقة الوقحة التي تدلّ على عدم احترام وتقدير لهذه الشخصية المعنوية بقطع النظر عمّن تقلد المنصب، ولا يُعقل أن نرى الدولة تتهدّم أركانهُا ركنا بعد ركن لأجل نزوة طائشة تصدر من بعض الأفراد والأحزاب والمنظمات.
الدين الإسلامي حرّم السخرية والاستهزاء بالآخر
لستُ هنا أخصّ كلامي ببعض الأفراد العاديين بل هناك من رجالات السياسة والفكر والدين والثقافة من يتفوه بكلمات بذيئة في حق الرئيس وهو ما لا يقبل جملة وتفصيلا، لأن هناك ما يمنعنا عن فعل ذلك.
وأول المانعين ديننا الحنيف الذي حرّم السخرية والاستهزاء بالآخر في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
لكن الأدهى أن هناك من يدّعي الإسلام دينا ومن رجالات الإسلام ويتصدرون الناس في الفتاوى والإمامة وهم مهووسون بسبّ الرئيس وشتمه والسخرية منه بأبشع الرسومات والأحاديث، فهل هذا نوع من حرية التعبير أم هو نوع من النقص والتكوين؟ وهل هذا هو التغيير الذي ننشده في المجتمع من إثارة الفتنة وترسيخ لغة التمييع والتعطيل أم هو نوع من التهريج الذي لا مبرر له سوى الغطرسة الحزبية والعنجهية الأيديولوجية.
فالرئيس الذي يسكن قصر قرطاج اليوم لم يأت للحكم بانقلاب عسكري، ولا على ظهر دبابة ولا بالتحايل والكذب والخداع -وإن كان بعض الرؤساء الذين جاؤوا بهذه الطرق يعترفون بهم ويحترمونهم-، ولكنه جاء عن طريق صندوق الاقتراع وحاز على ملايين الأصوات ووثق به الشعب أن يقود تونس المرحلة المقبلة طوال خمس سنوات، ولذلك ينبغي أن يلتزم من انتخبه بميثاق الانتخاب، وما حدث في تونس في 25 جويلية 2021 قابلٌ للتأويل ومحل خلاف، فلماذا نخطّئ الرئيس ونعتبره انقلابيًّا ويجب إقصاؤه من المشهد السياسي، وغيرُه ممن حنث وفعل ما فعل بالدستور واستباحه في كثير من الأحيان نقبله على مضض، ألا يعد ذلك تجاوزا وتعدّيا على حرمات الرئيس.
لوبيات تحكم تونس في الخفاء و تعارض إصلاحات الرئيس سعيد
ينبغي على التونسيين أن يتوحّدوا في هذه المرحلة ولا يقعُوا في المطب الذي يريد البعض إيقاعهم فيه، فمشكلتنا ليس الرئيس لأنه ربما سيذهب ويأتي غيره، ودستور 2014 ليس قرآنا حتى لا يُعدّل ولا يُنقّح ولا يُغيّر، فالتجربة الماضية كانت مؤلمة للغاية ودفعت بالرئيس أن يتحرك بعد أن واجه صواريخ قاتلة خلال المرحلة الماضية فطالبوه بالتحرك للجم العبث المستشري في مجلس النواب، فلماذا ننسى بسرعة ما حدث في أروقة البرلمان وما يمكن أن يقع لولا تدخّل رئيس الجمهورية في الوقت المناسب، وماذا كان سيحدث بين الحكومة والبرلمان والرئاسة؟ وما الذي ستؤول إليه الأوضاع، وما تحرّك الشارع إلا بعد أن شعر بالألم يزداد يوما بعد يوم ليُعلن كلمته ويطلب من الرئيس أن يُصدر قرارات حاسمة وفاعلة تخرس كل ناعق باسم الحرية والديمقراطية.
واليوم وبعد أن تحرّك لم يتركوه يعمل، وعدّوا ما فعله انقلابا أو دكتاتورية أو حكم الفرد أو أي كلمة تقال هنا وهناك، واليوم بعد الإجراءات الجدّية لم يتركوه ليعمل، لم يدَعوه يصرّح، لم يفسحوا المجال للتغيير، لم يدَعوه يكشف عن المجرمين والفاسدين، فهناك لوبيات تحكم تونس في الخفاء، وهناك لوبيات تحرّك الإعلام، وهناك لوبيات تحرّك الشارع متى أرادت، وهناك لوبيات تتعامل مع الغرب وتطلب منه التدخّل في شؤون تونس.
لن تظنُّوا أيها المعارضون أنكم ستنتصرون حتى لو ذهب السيد قيس سعيّد، فما ينتظركم أسوأ مما كان، ولن يهنأ رئيس في ظل دستور 2014م ولن يقبل رئيسٌ بهذه القيود المفرطة، ولن تستقرّ حكومة من الحكومات في ظل برلمان مشتّت ومنقسم، وفي ظل أحزاب ضعيفة لا تملك حسًّا وطنيًّا ولا تأييدا شعبيًّا، وأعتقد أن المسار صعبٌ ومظلمُ ومعقّدٌ، فهل ينجح الرئيس في لجم هؤلاء؟ أم أن الأمر سيجنح إلى الفوضى من جديد.
* محلل سياسي.
شارك رأيك