مر شهران على اتخاذ رئيس الجمهورية قيس سعيد لتدابير استثنائية غير بها كل المعادلات السياسية وقلب الطاولة على جميع الفاعلين في الحقل السياسي مستعملا بحكمة ودهاء عنصر المباغتة. يواصل أستاذ القانون الدستوري المسنود من الأغلبية الساحقة للشعب التونسي السير بخطوات واثقة وثابتة وعلى نفس المسار والتوجه الذي أعلنه ليلة الخامس والعشرين من جويلية 2021 بعد اندلاع انتفاضة شعبية عارمة في العاصمة وجل الولايات التونسية لإسقاط حكم النهضة وحلفائها وحل البرلمان الذي صار محل تندر وسخرية من طرف القاصي والداني داخل تونس وخارجها.
بقلم البشير عبيد *
هذا المسار الجديد الذي أسسه رئيس الجمهورية التونسية من أجل انقاذ الدولة المنهكة من الانهيار وإعادة بناء مؤسساتها وهياكلها على أسس جديدة قوامها النزاهة والشفافية والحوكمة الرشيدة ومشروعها المركزي الدولة العادلة والمناهضة للحيث والظلم: جمهورية ديمقراطية بأفق اجتماعي ورؤية استراتيجية بعيدة المدى في مجالات الحقوق والحريات وعلوية القانون مع التركيز بشكل جدي ونوعي على إرساء عدالة اجتماعية وسيادة وطنية وفق دستور جديد يقضي على عوائق ومطبات دستور 2014 الذي أدخل البلاد في الفوضى العارمة كادت تصل إلى الانفجار الذي لا يحمد عقباه.
إجراءات 25 جويلية والفرز السياسي
مثلما قلنا سلفا أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها حاكم قرطاج كانت تلبية لرغبة وطموحات الأغلبية الساحقة من شعب تونس المثخنة بالجراحات والانكسارات والخيبات نتيجة حكم حركة النهضة/”النهبة” وما جاورها من “دكاكين السياسة” من اليمين الليبرالي الحداثوي واليمين الإسلاموي العنيف.
هذه الإجراءات كانت صادمة لمنظومة الحكم ما قبل 25 جويلية وفي الطرف المقابل قوبلت هذه القرارات الرئاسية بترحاب ومساندة من قبل أحزاب وجمعيات ومنظمات مدنية بحكم تقاسمها مع قيس سعيد نفس التوجهات وقراءته النقدية لفترة 14 جانفي وما بعدها أي عشر سنوات من حكم إخوان تونس وحلفائها (المؤتمر من أجل الجمهورية – التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات – حركة نداء تونس – حزب قلب تونس- وائتلاف الكرامة).
أما القوى السياسية المتكونة من حركة الشعب والحزب الوطني الديمقراطي الموحد وحركة تونس إلى الأمام وحزب الوطد الاشتراكي والتيار الشعبي والمسار الديمقراطي الاجتماعي فقد طالبت أكثر من مرة في بياناتها بحل البرلمان السيئ الذكر وإعداد قانون انتخابي جديد يغلق الباب أمام المال السياسي الفاسد والتمويل الأجنبي للأحزاب والحملات الانتخابية وتعديل جذري لدستور 2014 مع المحافظة على فصوله الخاصة بالحقوق والحريات والدولة المدنية ويوضح المسار السياسي الجديد للجمهورية الثالثة ذات البعد الديمقراطي والأفق الاجتماعي.
من هنا بدأ الفرز داخل المشهد السياسي التونسي بين قوى مساندة للمطالب الشعبية وطموحاتها المشروعة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية وسيادة الدولة وإبعادها عن سياسة المحاور والتكتلات الدولية دون نسيان سن قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب والمساندة المطلقة لأهلنا في فلسطين المحتلة وكل حركات التحرر الوطني والإنعتاق الاجتماعي في كل أقاليم العالم.
هذا التوجه السياسي التحرري تعارضه “حزيبات سياسية” تسمي نفسها أحزابا وأعلن قادة هذه المجموعات السياسية على غرار حزب حركة تونس الإرادة و حركة وفاء والاتحاد الشعبي الجمهوري والإرادة الشعبية تكوين جبهة ديمقراطية يوم 23 سبتمبر لإسقاط “الانقلاب” كما يسمون حركة 25 جويلية التصحيحية. ومنذ اللحظة الأولى لتأسيس هذا التحالف طالبوا بالحكم القائم الفاقد للشرعية مثلما يزعمون باعتبار معارضتهم الكاملة للتدابير الاستثنائية التي أعلن عنها رئيس الجمهورية مساء الأربعاء 22 سبتمبر المتضمنة:
*مواصلة تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة البرلمانية عن جميع الأعضاء ووضع حد لكافة المنح والامتيازات لرئيس المجلس وكافة أعضائه.
* التدابير الخاصة بممارسة السلطة التشريعية.
*التدابير الخاصة بممارسة السلطة التنفيذية.
*مواصلة العمل بتوطئة الدستور والفصلين الأول والثاني منه وجميع الأحكام الدستورية التي تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.
*تولي رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية والاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي.
إذن معارضو حركة 25 جويلية التصحيحية والأحكام الاستثنائية الصادرة يوم 22 سبتمبر ليس لهم أي تبرير أو سند سياسي موضوعي. هؤلاء يعارضون هذا التوجه الذي أقدم عليه رئيس الجمهورية لأن ليس لهم وظيفة سوى المعارضة وليس لهم أي مشروع سياسي وطني- علما بأن الأحزاب الأخرى لها نفس التوجه (التيار الديمقراطي و الحزب الجمهوري وحزب أفاق وحزب الأمل وحزب العمال).
واقع المرحلة ورهانات المستقبل
المشهد السياسي في تونس الراهنة ذاهب بالضرورة لفرز حقيقي وتبيان القوى السياسية المدافعة بشراسة عن مشروع الدولة المدنية والجمهورية الديمقراطية بأفقها الاجتماعي وتأسيسها لنظام سياسي متطور عصراني وحداثي يستفيد من آخر اكتشافات العلوم والتكنولوجيا ويقطع نهائيا مع حكم المافيات واللوبيات وبعض عائلات المال المسيطرة بشكل كامل على اقتصاد البلاد وثرواتها الوطنية. بينما القطب الثاني الذي تترأسه حركة النهضة وحلفاؤها التقلديون أو المستحدثون وهي شركات تشتغل في الحقل السياسي بانتهازية لا غبار عليها. ولعل من المصطلحات المثيرة للسخرية والضحك استعمالهم لفظة “التوافق” التي حكمت بها النهضة مع حركة نداء تونس وهو في الحقيقة توافق من أجل تبادل المصالح والمنافع واقتسام الغنيمة وامتيازات السلطة على حساب معاناة الطبقة الشعبية الكادحة والفئات الاجتماعية الهشة والمهمشة. هؤلاء انقلبت عليهم الطاولة ليلة 25 جويلية بعد يوم كامل من صيف ساخن كانت الانتفاضة الشعبية ضد حكم حركة النهضة وحلفائها وسياساتها اللاوطنية طيلة عشرية كاملة من خراب وفساد وإفساد وإرهاب واغتيلات وتسفير لشباب يائس إلى بؤر التوتر (سوريا).
الآن اتضح الأمر وصار المشهد السياسي التونسي منقسما إلى قطبين: قطب يقوده بحكمة ورصانة رئيس الجمهورية وتسانده في مشروعه السياسي الوطني التحرري قوى سياسية ومدنية وازنة وشخصيات وطنية مقتدرة في مجالات اختصاصها, وليس للشعب التونسي من سبيل سوى الذهاب بهذا المشروع الوطني الديمقراطي الاجتماعي إلى أقاصي الحلم مهما تكبر التضحيات في الزمان والمكان ولنا ما نستفيد من مسيرة ومسارات الكثير من أحرار تونس رجالا ونساء من أجيال مختلفة للسفر بهذا المشروع الطموح إلى الأعالي “وغدا يبدأ اليوم”.
* كاتب سياسي وناشط حقوقي.
شارك رأيك