لا شك أنّ الشعوب تُمتحن على مرّ التاريخ في أحداث وحقبات فارقة تستخلص منها الدّرس لتختار طريقها من جديد إلى المستقبل. لقد كنا في بداية 2011 نرى طبيعيّا بعد أكثر من عقدين في احتكار السلطة وتزوير إرادة الشعب وتفشي الفساد وإهدار المال العام الدعوة إلى تغيير النظام. وفي 2021 عدنا الى المربّع الأول ونرى من الطبيعي خروج الشعب يوم 25 جويلية 2021 تجاوبا مع قرار تفعيل الفصل 80 من الدستور ثم ينادي بحل البرلمان. لقد عدنا في ظلّ النظام البرلماني بتركيبته الحالية وبفعله أو ضُعفه إلى مظاهر شبيهة بالحقبة السابقة مع تراجع مكانة ودور تونس عربيا وإقليميا ودوليّا.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
ما بين النكران والعرفان
لا يمكن تجاهل المآخذ التي ألقت بظلالها على سير المجلس ونشاطه. نحن أمام مؤسسة تشريعية أصبح من الصعب ألا تشك في سلامة وصدق تعبيرها عن الضمير الجمعي الصحيح للشعب. هناك صورة مشوهة أفرزها صندوق الانتحاب، صورة غريبة وغير متجانسة تجمع بين الدين والسياسة والمال. لقد تم الانصياع للنظام الانتخابي ونقائصه، ولكن ابتعدنا في الواقع المعاش عن الأهداف المؤملة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي تتولد عنها الشرعية والمشروعيّة المحقّقة للرضا العام. لهذه الأسباب والنتائج وغيرها أصبح 25 جويلية هو المنطلق السياسي الجديد.
علينا أن نعترف أنّ النظام البرلماني الذي اعتمدناه يتطلب درجة عالية ليس فقط في نضج الثقافة السياسية بين مختلف فئات المجتمع والنخب على حدّ سواء، بل يستلزم أيضا وجود أحزاب تمتلك قواعد شعبية واعية برسالتها و “دون تعبئة مُشوّهة”، مع مناخ سياسي تتوفر فيه إمكانية حقيقية لتداول السلطة والرقابة عليها. إنّ قوة الشعوب السياسية تتجلّى في وحدتها الفكرية وتنافسها في برامجها التنموية… وليس في استعراضات لا طائل من ورائها.
لقد فشلت النخب السياسية في بناء توافق سياسي يجمع ولا يفرّق، ويوفّق ولا ينفّر في إطار فكر سياسي مُتحرّر ومُستنير. إنّ نتائج وحجم حصيلة هذه الحقبة وآثارها على الوطن، والدولة والشعب والمقدّرات والموروث لا يمكن اعتبارها بداية طريق، بل نهاية تجربة.
الدستور شأن تونسي قبل كلّ شيء
لا دولة بدون دستور… ولا ديمقراطية خارج هذا الإطار، فكلاهما من الأسس القانونية الثابتة للدولة وأسلوب الحكم. ولا أدّعي معرفة إن ذكّرت بأن صناعة الدساتير وتطورها هي مسؤولية الشعوب وبشكل مباشر. ومن خلالها تَحيى روح المشاركة وينمو الشعور الواسع بالمسؤولية. وحتى لا نقع في متاهات التضليل علينا القول بأن الأيديولوجيا أثّرت سلبا على المسار السياسي، فضلا عن تدخلات بعض الدول الغربية والإسلامية والعربية خدمة لمصالحها الخاصة، وفي غياب تام لمبدأ المصالح المشتركة.
لقد تشوّه استقلال القرار التونسي وضعف العمق الاستراتيجي للبلاد وفقدت تونس دورها المؤثر وذلك كله لحساب دول أخرى إقليمية ودولية لا يمكن أن نأخذ منها الدروس وفق منظور التاريخ. ولعلّ حصيلة العقد المنقضي مع عدم امتلاك رؤيا أو أهداف استراتيجية والسير على غير هُدى ساعد على تثبيت أقدام هولاء لدينا.
علينا أمام “صرخة الوطن” أن نُخلص الضمائر ونحزم الأمر بقوّة وسرعة مُضاعفة لنعيد الثقة والأمن. لقد فُرض علينا أن نضع تونس فوق الجميع وأن نتّجه لبناء دولة الدستور الذي تقتضي:
أن يكون الدستور هو أساسها، والعدالة هي أساس الحكم فيها، والانتخاب هو أساس الوصول إلى السلطة، والأحزاب هي أساس القوة السياسية، والشعب هو أساس السيادة، والقانون هو أساس التعاملات، والأخلاق هي أساس التفاعلات، والإنسانية هي أساس العلاقات، والوطنية هي أساس المصالح، وإرادة الشعب هي أساس ممارسة السلطات، والحريات والحقوق هي أساس الحق في الحياة والكرامة الانسانية.
إنّ الفهم الصحيح لثقة الشعب وتفويضه، محكوم بالانتماء للوطن والولاء له والالتزام بالمصلحة العامة وانتظارات الشعب وعدم الانحراف عنها أو بها.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك