“في قرارات مفاجئة (حتى للقضاة أنفسهم) أصدرها الرئيس الاول للمحكمة الإدارية السيد عبد السلام قريصيعة يوم 30 سبتمبر2021 في مادة توقيف التنفيذ، رفضت المحكمة الإدارية جملة المطالب المقدمة طعنا في القرارات الصادرة بعد 25جويلية 2021 عن المكلف بتسيير وزارة الداخلية والمتعلقة بوضع العارضين تحت الإقامة الجبرية.
“وقد خلص الرئيس الاول- في تعليله لقرارات الرفض- إلى انه لم يتبين أن التمادي في تنفيذ القرارات المنتقدة (قرارات الإقامة الجبرية) من شأنه أن يتسبب للعارضين في نتائج يصعب تداركها على معنى الفصل 39 من قانون المحكمة الإدارية اي تلك النتائج التي متى تحققت يكون من العسير الرجوع بها إلى الوراء او إصلاح ما يمكن أن يترتب عنها من تداعيات .
“وقد اعتمد الرئيس الاول في هذا الخصوص على مستندين اساسيين:
الاول: وهو ما يطابق وجهة نظر وزارة الداخلية، أن قرار الوضع تحت الإقامة الجبرية هو من قبيل التدابير الوقتية الوقائية التي تنتهي بانتهاء حالة الطوارئ، ويمكن رفع هذا الإجراء حال انتفاء موجبه ولو مع تواصل حالة الطوارئ، وبأن الإدارة حريصة على ضمان معيشة المعني بالأمر بالسماح له بالتنقل بكامل مرجع النظر الترابي لمركز الأمن الوطني التابع له من حيث الإقامة، وانه يمكن وبطلب منه السماح له بالتنقل خارجه لقضاء حاجياته الأساسية استنادا إلى أحكام الفصل 5 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطّوارئ.
الثاني :إن المحكمة (الإدارية) دابت بخصوص المطالب الرامية إلى توقيف تنفيذ القرارات المتعلقة بالوضع تحت الإقامة الجبرية على الأذن بتوقيف تنفيذ هذه القرارات جزئيا كلما تضمنت منع الأشخاص المعنيين بها من مغادرة محل إقامتهم باعتبار ان ذلك يعد انتهاكا جسيما للحقوق والحريات التي يكفلها لهم الدستور وخاصة حريتهم في التنقل وممارسة حقوقهم الأساسية.
وعلى خلاف ذلك اتضح للمحكمة بالاطلاع على القرارات المراد ايقاف تنفيذها انه لا شيء يحول دون تنقل العارضين داخل المنطقة الترابية مرجع النظر، كما لم يثبت للمحكمة انه تم منعهم من التنقل خارجها او رفض الترخيص لهم في مغادرتها لقضاء حاجياتهم الأساسية.
وفي ضوء هذه المبررات، نلاحظ ان القرارات الأخيرة تثير صنفين على الاقل من التحفظات :
اولا:التحفظات المستمدة من المستندات الواردة بالقرارات :
يتضح ان قرارات المحكمة لم تلتفت إلى الأسباب الجدية التي تمسك بها العارضون والى النتائج التي يصعب تداركها من جراء تقييد حريتهم في التنقل كالمساس بسمعتهم او التاثير على عملهم او شؤونهم العائلية بقطع النظر عن دائرة (او امتداد) تحركهم باعتبار ان الإقامة الجبرية – مهما كان مداها – تمثل اعتداء على حرية الشخص وممارسته لحقوقة الأساسية.
كما تغاضت القرارات عن ان المنع بجميع أشكاله لا يستند إلى مبررات مقنعة وان وزارة الداخلية بقطع النظر عن شرعية المستندات القانونيةلم تبسط للمحكمة الأسباب الجدية (و الحقيقية)التي دعتها إلى وضع العارضين قيد الإقامة الجبرية ،ولم تبين الأنشطة الخطيرة التي يمارسها العارضون تهديدا للامن والنظام العامين! .
كما أنه لم يثبت ان الإدارة كانت حريصة على ضمان معيشة المعنيين بالأمر او السماح لهم بقضاء حاجياتهم الأساسية.
ثانيا :التحفظات المستمدة من فقه قضاء المحكمة الإدارية :
يتضح ان القرارات الجديدة تخالف فقه قضاء المحكمة سواء في دوائرها الأصلية او في قراراتها الفردية المتعلقة بتوقيف التنفيذ ،فضلا عن ان الرئيس الاول للمحكمة الإدارية نفسه قد سبق له(بشهادة بعض زملائه) اصدار قرارات مخالفة في وقائع مماثلة.
ومن الثابت ان فقه القضاء المستقر للمحكمة الإدارية قد داب على إلغاء تلك القرارات وتوقيف تنفيذها منذ سنة 2018 على الاقل دون تراجع.
ولا شك أن الاسانيد القانونية التي اخذت بها المحكمة الإدارية بشأن التدابير الاحترازية (سواء في الأوضاع العادية او الاستثنائية) من شأنها “ان تغلب لدى قاضي توقيف التنفيذ احتمال القضاء بالالغاء في الدعوى الأصلية بالنظر لما تكتسيه من قوة الإقناع الظاهر”.
وفي هذا الخصوص برز في فقه قضاء المحكمة التأكيد على مبدئين اثنين :
اولهما: أن التدابير الاحترازية التي من شأنها التضييق من الحقوق والحريات ينبغي أن تستند في اللجوء إليها إلى نص له مرتبة التشريع ولايكون بنص ترتيبي.
وتبعا لذلك اعتبرت المحكمة ان” الانتفاع بالحق في ممارسة الحريات العامة يجد أساسه في النصوص الدستورية و المعاهدات المصادق عليها وفي المبادئ العمومية للقانون.
ولايمكن أن توضع ضوابط لممارسة تلك الحقوق والحريات الا بمقتضى قوانين تتخذ لاحترام الغير ولصالح الأمن العام على أن لاتنال تلك الضوابط من جوهر الحقوق والحريات “(حكم صادر تحت عدد 126863 بتاريخ 18 مارس 2014)
ثانيهما :الاستناد في إزاحة تطبيق أحكام الامر عدد50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ إلى تعارضه مع مقتضيات الفصل 49 من الدستور الجديد الذي ينص على أن القانون هو الذي” يحددالضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهر ها..”
ومن ضمن تلك الحقوق والحريات حرية اختيار مقر الإقامة وحرية التنقل داخل الوطن ومغادرته المقررة بالفصل 24من الدستور.
وفي ضوء ذلك من الواضح أن يكون الامر المذكور غير دستوري ولا يصح الاستناد اليه في اتخاذ التدابير الاحترازية ومن ضمنها الاخضاع للإقامة الجبرية في ظل حالة الطوارئ.
(انظر :الحكم الإبتدائي الصّادر عن الدّائرة الابتدائيّة الأولى بتاريخ 2 جويلية 2018 في القضيّة عدد 15016 المنشور بصفحة المحكمة الإدارية التونسية بتاريخ 9 نوفمبر 2018).
فهل نشهد بصدور القرارات الأخيرة “انتكاسة ” في ضمان القضاء الإداري لحقوق الناس وحرياتهم وتراجعا غير مبرر عن ضمان حق التنقل دون قيود المكفول بالدستور و المعاهدات الدولية؟!
ام ان سلطة القضاء قد بدأت تتاثر بالاوضاع الاستثنائية وامتيازات الإدارة ؟!”.
شارك رأيك