سيبقى يوم الأربعاء 29 سبتمبر 2021 راسخًا بماء الذهب في تاريخ البلاد التونسية أبد الدهر، حيث قام رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتكليف السيّدة نجلاء بودن بتكوين حكومة وبالتالي تصبح أول امرأة تحتّل منصب الصدارة كرئيسة الجهاز التنفيذي والإداري في تونس وفي كامل محيطينا العربي.
بقلم طه عبد القادر العلوش *
بعد تزايد الضغوطات على رئاسة الجمهورية داخليًا و خارجيًا في الآونة الأخيرة، خيّل للعديد من المراقبين على الساحة الوطنية و الدولية أن الرئيس قد حشر نفسه في الزاوية خاصة بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 و المؤرخ في 22 سبتمبر الماضي في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية و الذي يتيح لرئيس الدولة تركيز كل السلطات بين يديه دون إمكانية حقيقية للرّقابة البعديّة سواء عبر الطعن في المراسيم والأوامر الرئاسية المزمع إصدارها تباعًا أو حتى ضمان تشاركيّة قبليّة مع أهم مكونات المجتمع المدني للتنضيج و بلورة الإصلاحات الدستوريّة و السياسيّة الموعودة. هذا ما أدى الى تصاعد وتيرة التّوجس ومنسوب المخاوف حتى في صفوف الداعمين لتمشي تصحيح المسار الذي أقدم على تنفيذه الرئيس سعيّد بعد الإعلان عن الإجراءات الإستثنائية ليوم 25 جويلية المنقضي.
بين سيادة الأقوال وسيادة الأفعال
مرّة أخرى يخرج الرئيس سعيّد من مأزقه منتصراً على الجميع حيث أخرج من قُمْقٌمِه مرشحًا أو بالأحرى مرشحةً لترأس الحكومة أصاب بها عدّة أهداف في الآن نفسه.
أولاً : تعتبر هاته التسمية النوعيّة والفريدة في بلادنا و في كل الوطن العربي قاطباً ضربة اتّصالية بامتياز إذ سحب بها الرئيس البساط من تحت أرجل كل المتداخلين في الشأن العام الوطني، حيث كان النقاش السائد على الساحة حينها متمحورًا حول التباطؤ في تكوين حكومة أو في مضمار ضبط مقايس الشخصية المؤهلة للقيادة هذه المرحلة الإستثنائية بل ذهب الرئيس أبعد من ذلك بإعادة توجيه دفّة مركب الحوار المجتمعي نحو دخول مرحلة جديدة بكل ما تقتضيه من تركيز على وضع برنامج عمل اقتصادي و اجتماعي للفريق القصبة الجديد وخاصّة حسن اختيار النواة الأساسية للحقائب المفتاح في التركيبة الحكومية المنتظرة مبتعدًا بذلك عن نقاش شرعانِيّة الوضع الحالي أو قانونيّته.
ثانيًا: اختيار السيّدة نجلاء بودن جاء فيه إستجابة مُبطّنة للمعاير التي وضعها الشركاء الدوليون لبلادنا من ناحية لكن دون الخضوع للإملاءات والمقترحات المسقطة التي كانت تطرح اسماً بعينه للتولِّي هذا المنصب حتى وإن كانت هذه الشخصية الوطنيّة تتوفر على كل المواصفات الآنف ذكرها سلفا.ً
ثالثاً: إن تسمية السيّدة نجلاء بودن كانت في جوهرها رادًا قاسيًا وشافيًا لكل من اتهم الرئيس سعيّد بالنّزعة الرجعيّة وحتى السّلفيّة منها رجماً بالغيب حيث أقدم هذا الأخير واقعيًا على إعطاء فرصة ثمينة ومستحقة في الآن نفسه للمرأة التونسّية تتويجًا لنضالها المستمر ومساهمتها المتواصلة في تحرير وطننا العزيز وبنائه منذ الحقبة الاستعمارية مرورًا ببناء دولة الاستقلال و وصولاً إلى ثورة الحريّة والكرامة سنة 2011.
رابعاً: بعيدًا عن جندريّة الشخصية المكلفة بتكوين الحكومة يعتبر تعين السيّدة بودن على رأس الحكومة التونسية بشارة ميلاد طبقة سياسية جديدة مستعدة للانخراط في الشأن العام و خاصة السياسي منه بعد أن هرّت العشرية الأخيرة معظم الوجوه السياسية بين الحكم والمعارضة ومنه أصبحت أغلب مكونات المشهد السابق أي منظومة 24 جويلية عنوانًا للنفور من متابعة الحياة السياسية فما بالك بالمشاركة في تأثيثها.
بين الوعد والوعيد و ظرف التجديد
إن الرئيس سعيّد بهذه الخطوة الجريئة يعطي فرصة تاريخية لمجموعة الأغلبية الصامتة والتي لفّها النسيان على امتداد السنوات الغابرة لضمان موقع في المعادلة السياسية المقبلة و أيضاً للإسهام الفاعل من مراكز متقدّمة في بناء تونس الجديدة دون ضرورة المرور بلوبيّات المقاولات السياسية وكرتلات اقتصاد الريّع التي ما فتأت تحرك خيوط اللّعبة السياسية من خلف الستار طيلة مرحلة الانتقال الديمقراطي المزعوم حيث مثّلت هذه الدوائر وخاصة مجموعات الضغط منها حجر عثرة دائم أمام انخراط الأكفّاء و الشرفاء في إدارة الشأن العام فلم يكن من المسموح البتَّة تولي مناصب هامة في الدولة لغير من أعطى طقوس الولاء و الطّاعة أي ما يعَبّر عنه اصطلاحا “بالمضمونين” و”المنسجمين”.
وفي الأخير رغم عدم توفر الرئيس قيس سعيّد على ماضٍ سياسي كبير أو خبرة تذكر في التسيير الإداري قبل تقلّده السلطة أواخر سنة 2019 حيّث لم يعرف عنه سابقًا الانتماء إلى تنظيمات أو أحزاب أيدولوجية، في المقابل، يبدو أنه تمرّس ميدانيًا على امتداد السنتين الأولتين من المدّة الرئاسية في اكتساب حنكة خصوصاً من حيث اختيار المواقيت واللَّحظات المناسبة للفعل أو لردّه كما صَدَحَ بذلك في خطابٍ للعموم “فاليوم صبرٌ وغداً أمرٌ”.
* طبيب ونشاط سياسي.
شارك رأيك