لم يكن بيد القضاة – حتى قبل إرساء العدالة الانتقالية وفي الأيام الأولى التي أعقبت الثورة – إلا النزول إلى الشوارع لمطالبة السلطة بإصلاح القضاء (في أشخاصه ومؤسساته!). ولم ينقطع “حراك القضاء” على مختلف مشاربه وفي كل المحطات عن تأكيد المطالبة بإرساء سلطة قضائية مستقلة ونزيهة تحظى بثقة الناس واحترام بقية السلطات.
بقلم القاضي أحمد الرحموني
ربما لاحظ الكثير أن جلوس رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر بين يدي رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم أول أمس الإثنين 4 أكتوبر 2021 في قصر قرطاج لم يكن كغيره من اللقاءات التي جمعتهما.
ولا أدري إن كان قيس سعيد يرغب من وراء إخراج ذلك “الموقف” أن يؤكد للشعب (المجسد في شخصه) أنه يدير كل شيء (خصوصا بعد المظاهرة المليونية ليوم الأحد!) وإن ما بقي من سلطات الدولة (وهو القضاء) ليس بعيدا عن مرمى صواريخه؟! أم انه كان يهدف إلى ترسيخ صورة القضاء “المستضعف”، مظنة الرشوة والفساد (إلا قلة شريفة!) وذلك استكمالا لتصوراته عن السرطان الذي ينخر جسم الدولة؟!
أقصر الطرق وأنجعها لإخضاع القضاء و استعماله
أم أنه كان يرمي مع ذلك إلى ترويع الجميع وخصوصا القضاة حين يرفع شعار تطهير البلاد وتطهير القضاء؟! باعتبار أن ذلك هو أقصر الطرق وأنجعها لإخضاع القضاء و استعماله! ومهما كانت الأفكار التي جالت بخاطره، فإن جميع تلك “النوايا” ليست في آخر المطاف من جملة ما يفيده أو ينفعه أو يصلح من شأن القضاء؟!
كما يبدو أن الخطاب المباشر على منوال ذلك اللقاء (في مواجهة أشخاص لا ينطقون ولا يناقشون! ) لا يمكن أن يحمله الملاحظ إلا على محمل التقريع أو التأديب أو حتى الازدراء وهو في كل الأحوال خطاب لا يليق أن يوجه لأحد مكونات سلطة الدولة (السلطة القضائية)، على افتراض وجودها أو ضرورة احترامها!
وحتى إذا تجاوزنا ذلك، فإن أصل الخطاب المتعلق بتطهير القضاء (طبق مضمونه المرتبط بالعدالة الانتقالية) هو من صميم الصلاحيات المنوطة بهيئات مستقلة وبسعي من السلطة التنفيذية التي يجب أن تستند في ذلك إلى تشاريع وضمانات، وهو ما يعني أن المجالس العليا للقضاء و الهيئات القضائية والهياكل الممثلة للقضاة ليست معنية مباشرة بتنفيذ إجراءات ما يعرف بالتطهير (أو الإصلاح المؤسسي)، الذي كان من اختصاص هيئة الحقيقة والكرامة (لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات) طبق القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها الصادر في 24 ديسمبر 2013.
من يملك “مفاتيح إصلاح” القضاء و سر “تطهيره” ؟
وللعلم، فإن تلك اللجنة كان لها طبق القانون أن تصدر توصيات للجهات المختصة بالإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي في حق كل شخص يشغل إحدى الوظائف العليا بالدولة بما في ذلك الوظائف القضائية إذا ثبتت مسؤوليته عن جملة من الانتهاكات المحددة (الفصل 43 من قانون العدالة الانتقالية).
وعلى ذلك لم يكن بيد القضاة – حتى قبل إرساء العدالة الانتقالية وفي الأيام الأولى التي أعقبت الثورة – إلا النزول إلى الشوارع لمطالبة السلطة بإصلاح القضاء (في أشخاصه ومؤسساته!). ولم ينقطع “حراك القضاء” على مختلف مشاربه وفي كل المحطات عن تأكيد المطالبة بإرساء سلطة قضائية مستقلة ونزيهة تحظى بثقة الناس واحترام بقية السلطات.
ولذلك لم تكن بيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء “مفاتيح الإصلاح” ولا “سر التطهير” حتى يصرخ في وجهه رئيس الدولة. كما لم يكن له (وهو الماثل امام صاحب جميع السلطات.! ) أن يذكر بأن ما نعيشه من غياب السلطات العامة الثلاث وتركيزها في يد واحدة والإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها والتدخل في تنظيم العدالة بمراسيم رئاسية و وضع القضاة بالإقامة الجبرية ومنعهم من السفر و ترويعهم في كل مناسبة لم يترك من تلك السلطة شيئا إلا الحديث في أركان المحاكم!
شارك رأيك