من الواضح أن بناء سلطة قضائية مستقلة – باعتبارها من مكونات دولة القانون – لا يمكن أن ينعزل عن بيئة قانونية و دستورية قوامها السعي إلى تأسيس نظام جمهوري، يحترم القضاء ويمنع التدخل في سيره أو استعماله بقصد التحصيل على منافع سياسية. ولا يظهر ان طبيعة العلاقة بين قيس سعيد والقضاء (بمحاكمه وقضاته و هياكله وممثليه) قد تميزت – في ظل حالة الاستثناء- بغير التوجس والترقب والتوقع وحتى الخوف!
بقلم القاضي أحمد الرحموني
لا أحد ينكر أن القضاء كمؤسسة لم يخضع إلى إصلاح عميق (في هياكله وأشخاصه) رغم إقرار مسار للعدالة الانتقالية وإجراءات خاصة لإصلاح المؤسسات كان من المفروض أن تساهم في توطيد نزاهة القضاء وشفافيته، كما لم يتحقق ذلك رغم إرساء منظومة دستورية كان من المفروض ان تضمن استقلاله وثقة الناس فيه.
وكلنا يتذكر كيف آل الأمر إلى وضع انتقالي تحت إشراف الهيئة الوقتية للقضاء العدلي والمجالس العليا الموروثة عن النظام السابق إلى أن تم إقرار قانون المجلس الأعلى للقضاء وفرضه على الجميع رغم ما كان يشوبه من خروقات دستورية. وفي ظل هذا القانون تم انتخاب مجلس أعلى للقضاء مع مجالسه القطاعية الثلاثة فكانت على صورة الأوضاع المتردية للعدالة، وما تشكوه من ضعف الإمكانات وغياب الصلاحيات فضلا عن علاقات غير متوازنة مع السلطة السياسية المهيمنة.
ومن الطبيعي أن يحافظ الجسم القضائي في هذا المناخ على مظاهر عديدة من أمراضه الموروثة وأن تتوسع الضغوطات على القضاة و أن تستمر السلوكيات الناشئة عن عدم الشفافية ومن ضمنها مظاهر الفساد بمختلف أشكاله وتدخل السلطات والأحزاب والقوى السياسية والاقتصادية في الإجراءات القضائية.
استقلالية القضاء لم تتحقق بعد
و لا يمكن أن ننكر – رغم التأثيرات الإيجابية للثورة والمساهمات الفردية في تطوير العمل القضائي – أن قضاءنا الحالي لم يتخلص إلى الآن من منظومة قضائية استبدادية ترسخت على مر الاستقلال وان عملية الإنتقال من قضاء بورقيبة – بن علي (بكل ما يحمله من قيم و تقاليد وسلوكات) إلى قضاء حديث طبق معايير الاستقلالية والنزاهة المقررة دوليا لم تتحقق.
فهل لنا أن نأمل في سياق ما بعد 25 جويلية 2021 المتميز بحالة الاستثناء المعلنة وانقلاب التوازن بين السلطات والهيمنة السياسية لشخص قيس سعيد وانتشار مظاهر الشعبوية وانغلاق الأبواب دون أي حوار أو تشاور أو إعلام مفتوح أن يخضع القضاء إلى نقاش موسع ومعالجة عميقة وإصلاحات جوهرية؟
وهل يمكن أن يندرج أي إصلاح للقضاء في إطار تعليق فعلي لدستور البلاد وإرساء تنظيم للسلط العمومية (بمقتضى الأمر الرئاسي عدد117) يتنافى مع مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها ويصطدم بمبادئ استقلال السلطة القضائية ويكرس تدخلا مباشرا لرئيس الجمهورية (بموجب مراسيم رئاسية) في تنظيم العدالة والقضاء ومختلف المحاكم وهي بطبيعتها من المسائل الراجعة لاختصاص السلطةالتشريعية؟
القضاء المستقل من مكونات دولة القانون
وهل يمكن أن نعتبر – مثلما اعتقد بعض ممثلي القضاة – أن ركوب موجة “تطهير القضاء” لتطهير البلاد هي فرصة ملائمة لإصلاح القضاء بإرادة محضة من رئيس الجمهورية؟ من الواضح أن حظوظ استقلال القضاء وتوسيع نفوذه في دولة القانون ترتبط بمدى قدرة المجتمع على الحد من الهيمنة السياسية للأشخاص أو الأحزاب أو المجموعات وأن انحسار التأثيرات السياسية يفتح الباب (مثلما تحقق ذلك في تاريخ بعض الدول) لوجود سلطة قضائية قوية وهو واقع بعيد تماما عن السياق الذي نعيشه والمتميز – على خلاف دولة القانون- بتركيز السلطات في يد واحدة.
كما يبدو واضحا ان بناء سلطة قضائية مستقلة – باعتبارها من مكونات دولة القانون – لا يمكن أن ينعزل عن بيئة قانونية و دستورية قوامها السعي إلى تأسيس نظام جمهوري، يحترم القضاء ويمنع التدخل في سيره أو استعماله بقصد التحصيل على منافع سياسية.
ولا يظهر ان طبيعة العلاقة بين قيس سعيد والقضاء (بمحاكمه وقضاته و هياكله وممثليه) قد تميزت – في ظل حالة الاستثناء- بغير التوجس والترقب والتوقع وحتى الخوف!
شارك رأيك