يسر أنباء تونس نشر آخر قصيد للشاعر و الروائي التونسي حافظ محفوظ وهو من مولود في مدينة قصور الساف بالساحل التّونسي سنة 1965، أستاذ اللغة والأدب العربي. حصل على عدّة جوائز عربية وتونسية منها جائزة الكومار الذهبي لأحسن رواية تونسية عن “حارس الملائكة” سنة 1999 وعن “حورية” سنة 2006. ترجمت بعض أعماله للفرنسيّة والأنجليزية وكتبت حول تجربته الإبداعية مقالات نقدية كثيرة، وأصدر مجموعة من الكتب الشعرية والروائية.
(1)
ابتدعْ الآنَ سماءَكَ
زيّنْهَا بهلالٍ طفلٍ وآرسُمْ غيمتك الحُبلَى.
ها تتشابكُ موسِيقى تصعدُ من تاريخك موّالاً مَوّالاً
وتزيّنُ أفقكَ.
آدْخُلْ هذا البيتَ الجاثي قربكَ وأعدَّ طعامَكَ ممتلئًا بالغبطةِ.
الآنَ تعوُدُ فهودُ الحبّ إليكَ من الصّيد الشتويّ.
يعودُ غبَارٌ كنتَ تودّعُه وقتئذٍ.
هلْ تذكرُ سيّدةً جرّحهَا الشّوقُ إليكَ؟
ونظْرتُها؟
ادخُل هذا البيت الآن وعالجْ صمتك.
قلْ ما يَجدُرُ بنبيّ:
(لم يدخل هذا البيت سواي ولم يشعل نارا فيه سواي، أنا أوقفْتُ حجارته حذوي وجثمتُ أدَاعبها، أنا سمّيت الرّمل حبيبي وقلقتُ عليه، أنا كوّنْتُ الماء من ذاكرتي وقلتُ أدلّله، أنا الرّاسمُ والباني، أنا حارسه أسمعُ في الليل نبَاحي فأشدُّ وثاق الظّلمة لحزامي، أنا.. زائره العطشانُ، أنا ضوء السقف الأعرجُ أخفي ظلّ العاشق والواشي، أنا ثديُ الزّاوية الأولى تنزلُ في بعض دلالٍ فوق الشفتين.. أنا قلق العينين أمام الغرباء وطيشُ حنيني)
ادخُل هذا البيتَ إذنْ واسعدْ بجنوني.
هل ثمّة ما يرشدنا في هذي الظّلمة نحو الوادي؟
والوادي، هل ثمّة ما يرشده لكميني؟
ها إنِّي هـَيَّاتُ فخاخِي قربَ الرّبوةِ وأهلتُ عليهَا أعوامًا من صبرٍ ومحوتُ روائحَ أقدامي
ها إنّي أفتحُ أجنحتي في الرّيح
فأطوي قاماتِ الوقتِ
وتطويني.
(2)
موشكة كَفّي أن توقدَ جذوتها..
موشكة هذه الأدعيّةُ أن ترسُمَ شبّاكَ العرشِ وتفتحُه
ستكونُ هناك طريقٌ ترفّ كقبّرةٍ في الماء وتستُر سوأتها.
وتكونُ هناك طريقٌ تجفّف حلّتها.
ويكونُ هناك حنيني.
هل أمضي؟ أم أمضي؟
أم أرتدّ لموّالِ الأفق ليبقيني.
أيّتها الأسماء الأولى انشقّي الآن في لغتي.
اشتعلي أيّتها الأصواتُ وكونيني.
(3)
لا أملكُ وعدًا منكَ ولكنّي أوثقتُ الرّوحَ إليكَ لأسلمَ من ظنّي.
أوثقتُ الماضي والآتي.
ونزعْتُ دثارك عنّي.
هل قلتُ أحبّك قبل الآن
أنا أبكي في وحدتي منّي.
لم أفتحْ أبوابا كي أعبُرَ.
أنت البابُ وأنت المعبرْ.
أنت الخطوةُ ألقيها فتعود إليَّ
فلِمْ ألقي الخطواتِ مع الرّيح وتلقيني؟
عطشانَ أفتحُ خابيتي وأسكبُها
عطشان أفني كأسي وتُفنيني.
لا أملكُ وعدًا منك يقيّدني
لكنّي قيّدتُ الرّوحَ إليكَ
لأهرَبَ من ظنّي.
(4)
جاوِرْني كَيْ أنسخَ عطرَكَ في بيتي
ودعِ الكلماتِ تؤوبُ إليَّ لتخبرني عن لون النسيان.
سأملأ أحذِيتي بالوجْد لتحملني عندكَ
فاقترِبِ الآن وسيّجْ هذا الجسد الشّاردَ.
دُلّهُ كيْ تهدأ أحزاني…
هَا أُبْصِرُ وجهَكَ في المرآة جنينًا يتعلّمُ لكنتَهُ
هَا أبْصِر ظلّك يتدرّبُ في السرّ على الطّيران وحيدًا
ها أبصرُ قاماتِكَ في الرّيح فأتبعُها بنواح
جاورني كي أنشر فاكِهتي/ أو فاهجُرْ أوطاني.
(5)
هلْ أنتَ معجزةُ النبيّ الطّفلِ
أم أنتَ الفضاءُ الرّحبُ بينَ خرافتين؟
أحِبُّ لونَكَ فاتحا شرفاته لي
ضاحكًا في الفجْر.
سوف أظنّه كالنّاس منذورًا ليومٍ آخرٍ
وتكَذِّبُ الآهاتُ ظنّي.
كنْ لبيتِك حارسًا وافتحْ عيونكَ كلّها
تلك القريبةَ والبعيدةَ
واحترسْ من نومِهَا.
سنقسّمُ الآهاتِ بَعدَ هنيهَة
خذ قسطكَ المعلوم واذهبْ في الأعالي
صُبّهَا رَقراقةً
وانثر أغانيها على جنباتهَا.
(6)
– ماذا ترسمُ فوق النهر؟
– أقلتَ: سلاحفَ؟
أم قلتَ خيولا تسبحُ؟
أم أشكالا مبهمةً تتشبّه بالحبّ زمانًا…
دَعْ عَنكَ الماءَ يضيءُ الموتَى
مازالَ لدَيْنَا متّسَعٌ لنرمّمَ دهشتنَا من ساحاتِ الذّكرَى،
والأحلامَ منَ الدّعواتِ.
ومازال البرقُ يضيء الأكوانَ مصَادفةً.
فابتدعَ الآن سميّك منّي
وانشرني حولكَ كيْ تلقاني.
(7)
الفكرةُ أكبرُ من مُغلقها.
أجمَلُ من سقسقة المعنَى بينَ الكلماتِ
كأنّك تخفي ما تبدي حين تفَسّرُها
أو تبدي ما تخفي من أنّاتْ
الفكرةُ أنتَ
فناولني كفّيكَ لأكتبها
ناولني حضنك كي تكتبني الآهاتْ.
موعودًا بك أتداعَى صوفيًّا في ورقي.
والدّربُ يحوّلُها الشّطحَاتْ
ها أُبْصِرُنِي أرقصُ
انظرْ جسدي يبدُو محترقا في النغماتْ
(8)
لا أملكُ وعدًا منكَ، نزعْتُ روَائح سيّدَتي
لكأنَّ عطورك تمحوها…نفسًا، نفسًا
أبْصِرُ قدّكَ يدنُو منهَا.
ويزرّرُ أثواب الكونِ أمامي.
هيّا ادخلْ مخدعَ غانيتي.
جاورْ غفوتها أعوامًا…
ثمَّ اغرُبْ عنهَا…
(9)
يسكنني السّاعة ما يسكنُني
خوفي من هذا القادمِ في لُغتي
وثنياتي..
عطشي لسلافتها
وسُبَاتَاتي…
الأزَرق، ذاك المنحوت على التّابوتِ
وآهاتي…
تسكنني أغنيةٌ عشتُ أرَبِّيها في كتبي
واليوم تفاجئُني
ها تُخرِجُ أشيائي من مخدَعِهَا
وتطردُني من صفحاتي
(10)
بابًا… بابًا تُفتَحُ أقدارِي
أبصرُ أنوارًا تأخذني في خطفتها فأراك، أضمّك، أشرِع عندك أنهارِي
أَدْعُونِي، يا منشئَ هاويتي
يا مُحدِثَ أوزاري
كنْ موقدَ عافيتي.
أو كنْ مُخبِرَ أسْرَارِي.
أنا ما غنّيْتُ لذكركَ.
لكن خانتني أوتاري.
(11)
مصلوبا كنبيٍّ مقتدرٍ أتملّى حاشيتِي
هذا سندي وحبيبي يُرشدهم في الليل على بستاني.
هذا عبريُّ البيت يضِيء لهم عتماتي.
هذا الأسمرُ يأكل من زندي ويعرّيني.
هذا القادمُ من بابِلَ يرسُمُني فوقَ الماءِ
ويَطرُدُ موْجاتي.
هذا الجبلُ العاري يتزيّى بِصِفَاتي
أينكَ منّي الآن،
دعِ الأقمارَ تخالصْني النظراتِ
وناولني كلماتي…
(12)
سَأقولُ: أحبّكَ مُمتدحًا ذَاتِي، وأقولُ أحبّكَ محتفلا بلغاتي
وأقول: أحبّك محتلبا غيبي، وأقولُ أحبّك ممتدحا كتبي.
وأقول: أحبّك محتفلا بي وأقول أحبّك موعُودًا لي
وأقولُ: أحِبّك منسكبًا كنَبيذٍ مركونٍ في خابية أعلى الملكوت
أقول: أحبّكَ مفتونًا بهلاكي
إنّي أفنى إذْ أولد عندك
إنّي أولد إذ أفنى
وأموتْ…
شارك رأيك