كيف تبدو الكتابة كيانا مستقلا ومغايرا لحيفيات الواقع في ذهن صانعها الكاتب المبدع ؟ هذا هو السؤال الحارق والمحوري والضارب بعمق في مخيلة الكائن البشري المثخن بطقوس ومناخات الكتابة الإبداعية المؤثثة بالأماكن القريبة والقصية والأيام الخوالي المنبعثة منها خيبات وانكسارات ومواجع الإنسان الحالم بعالم خال من الحروب والاضطهاد والاستغلال والاستبداد.
بقلم البشير عبيد
الكتابة الإبداعية هنا هي البوصلة الحقيقية والمنارة التي تشع منها مسارات الضوء الطالع من أنفاق الظلمات والمبددة لكل الغيوم المتراكمة في كل الجهات شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. منذ القدم، كانت علاقة الإنسان بالكتابة تعبر عن جوهر الصراع الدائر في كينونة هذا الكائن بين معسكرين متضادين. معسكر الحرية والآخر الغارق في أوحال العبودية.
في هذا الإطار حاولت الأصابع الممسكة بالقلم والورقات لتخط إبداعات شتى، شعرا ونثرا وفكرا بعيدا عن أسوار الحصار المضروب على قلاع محصنة مناهضة بطبيعتها لانعتاق الإنسان من كل ضروب التهميش والتنكيل والتشريد والاضطهاد.. هذه الأصابع المكتوية بجمرات الواقع لا تستطيع أن تنسى أو تتناسى الأسئلة الحارقة المؤثثة لجوهر الكتابة الإبداعية وما تحمله من دلالات التجاوز والخروج من النفق المظلم إلى الأضواء الساطعة.
الكتابة وتجليات الرحيل:
قد يبدو هذا الوصف غامضا إلى حد الإبهام، لكن المتمعن في مسارات الكتابة الإبداعية منذ البدايات الأولى للتاريخ الإنساني يلحظ مباشرة ودون عناء كبير، الارتباط العضوي والمركزي والجدلي بين طقوس الكتابة ومناخاتها وتقنياتها ورحيل الأفكار والقيم المنبعثة منها إلى كل الأمكنة والأقاليم في كل أصقاع الأرض.
هنا يحدث الرحيل تقنيا ومعرفيا ويقع التجاوز لإحداث النقلة النوعية على مستوى الأفكار ومنظومات المعرفة لتكسير “ثقافة” السائد/الموجود والذهاب عاجلا وآجلا إلى العوالم المنشود الغارق في بياض البهاء.
هذا هو الرحيل الاستثنائي وما يحمله من مقاصد التضاد مع الواقع ومناهضته على كل المستويات، فكريا ومعرفيا، لإخراج الكائن الإنساني المراوح في نفس المكان وكأنه معزولا عن كل بقاع العالم وحيفيات تراكماته الموبوءة بالطعنات والانكسار وحمل الأجساد المنهكة إلى تخوم الأمل وتناغم الذات مع العالم والخروج من العزلة والانفتاح على فضاءات البهاء.
في اللحظة الفارقة التي يحياها المبدع، يكون بالضرورة ممسكا بأدوات وتقنيات التفرد طالما أن طموحه اللامتناهي هو الذهاب بنصه “الإبداعي” إلى أقاصي الكون واختراق كل المنظومات والأنساق المعرفية والحضارية ولا ينجز هذا العمل الشاق والمضني إلا بإتقان “المثاقفة” ومحاورة ما أبدعته الأمم والحضارات والأعراق عبر التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر.
الموهبة هنا هي بيت القصيد أو مربط الفرس في الكتابة الإبداعية وميكانيزماتها وحضورها اللافت في شخصية الكاتب/المبدع، ليعطي لعملية بناء النص الإبداعي، تقنيا وجماليا ومعرفيا، نصا زاخرا بالإضافة والتجاوز والتفرد، الأمر الذي يجعل هذا النص في قمة التماسك، مبنى ومعنى، شكلا ومحتوى. الكتابة الاستثنائية هي الثمرة الطبيعية لعملية التخييل وخلق التناغم والتناسق بين المعمار الهندسي ومقاصد اللغة وتجلياتها الفنية وأبعادها الجمالية وما تحملها دلالاتها من رحيل الكلام المكتوب برحيق الخيال الخلاق إلى مدارات الحلم ومرافئ الدهشة.
الكتبة الخارجة عن سياق روتين السائد وفجاجة الواقع هي المحققة بالضرورة لإبداعية النص المكتوب بالأصابع المكتوية بجمرات القاع الاجتماعي والمؤثثة في نفس اللحظة بتقنيات اللغة الحالمة المبحرة في مياه النور. لا نستطيع أن نحقق الحبكة الفنية والمعمار الهندسي الرشيق لنص إبداعي، شعرا ونثرا، إذا كان الواقع بكل تعقيداته وتعبيراته في حالة غياب، بل الأحرى بكاتب هذا النص أن يثابر من أجل خلق تناسق بين المبنى والمعنى، لنلحظ من الوهلة الأولى الانصهار الكامل بين الإثنين.
الإبداع والمأزق الإنساني:
مثلما أكدنا سلفا أن الكتابة الإبداعية هي الحاملة للبوصلة والمعبرة عن تناقضات ومفارقات الحياة وخيبات وانكسارات الإنسان، بل هي المرآة التي تعكس كل تفاصيل المشهد الإنساني: الموت والألم والجرح والفرح والأمل والحنين والفقدان والحرمان والقهر الاجتماعي المناهض لقيم التقدم والعدالة والمساواة كتابة بهذه الشاكلة تعطي نموذجا فريدا لكتابة إبداعية مغايرة ومفارقة ومشاكسة للاإنساني في مشهد الحياة المثخنة بالتناقضات الصارخة.
الكاتب/المبدع الحر سواء كان شاعرا أو قاصا أو روائيا أو مفكرا، لا يستطيع أن يكتب نصوصه خارج سياق اللحظة التاريخية التي يحياها، بل من ابجديات الكتابة الحضور الطاغي للوعي التاريخي وإتقان الإمساك بقضايا المرحلة والولوج بذكاء نادر إلى المنطق الوعرة التي تمثل حجر الزاوية بين الوعي والذاكرة والحرية واستحداث التقنيات لإعطاء هذا الثالوث الذهبي أبعاد جمالية وسفرا عجائبيا إلى مباهج الحلم وعتبات النور لإخراج الكائن البشري من مأزق هو انحداراته وإدخاله طواعية إلى الحصون والقلاع المضيئة حيث الأنوار الآتية من تشابك وتقاطع اللغة والواقع والوعي التاريخي دون نسيان الفكر النقدي والرؤية المعرفية.
هذه العناصر المتشابكة هي المحددة لإبداعية النص وجعله كيانا لغويا مستقلا بذاته ومحلقا في سموات جمال الفن. لو لم تتوفر هذه العناصر لما قرأنا “مديح الظل العالي” و”ذاكرة للنسيان” و”غنائية أحمد العربي” للراحل الكبير محمود درويش. كذلك الأمر، لو لم تكن هذه العناصر متناغمة ومتناسقة حد الانصهار لما أصابتنا الدهشة لحظة قراءتنا لـ”شرق المتوسط” و”أرض السواد” لعملاق الرواية العربية المعاصرة عبد الرحمان منيف.
واضح إذن، أن لا كتابة إبداعية مشهود لها بالحبكة الفنية الفريدة دون الولوج إلى مجاهل الواقع وتعقيداته وقضاياه المتعددة. الكاتب المبدع الحر هو المترد على كل شيء، والذاهب بأحلامه إلى أقاصي الدنيا، حاملا بين يديه جماليات اللغة المشتهاة وواضعا أقدامه على أرض صلبة أساسها الوعي والذاكرة والتحرر الاجتماعي لإخراج الكائن الإنساني من مئازقهوانكسارته وخيباته وجعله أكثر قدرة على مواجهة قوى القهر والاستغلال والإحباط والخنوع والخضوع لأوضاع العبودية المعاصرة.
هذا رأينا كبار الكتاب الموهوبين، شرقا وغربا، من كل الأمم والحضارات والأعراق، يخوضون معارك كبرى وقاسية ضد أعداء الحياة لكي تصير هذه الأخيرة جديرة بأن تعاش في سياقها الإنساني الطبيعي. خلاصة القول: الكتابة الإبداعية هي الحياة ومحورها الإنسان ومركزها الحرية وأساسها العدالة وعمودها جمال اللغة عبر استحداث المبتكر في التعبير والمقاصد والمعاني.
إذن، في هذا المسار حتما سنصل إلى مرافئ الحلم حيث الينابيع والتلال والحدائق والأنهار والسلم والأمان، وتختفي من مشهد الحياة، افتراضيا وجماليا صور الانكسار والآلام المتناسلة هنا وهناك. الحبر المشاكس هو بوصلة الاتجاهات المتشابكة والقلم الحر هو القلب النابض الصاعد إلى الأعالي والذاهب إلى الأقاصي والمسافر إلى كل الأقاليم.
* شاعر وكاتب تونسي.
شارك رأيك