هل يتربص قيس سعيد فعلا بالمجلس الأعلى للقضاء!؟ أم أن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد وهم أو إشاعة؟! وربما يقال أن هذا “الإقدام” لا يبدو مستبعدا طالما ان قيس سعيد قد علق بجرة قلم أعمال مجلس نواب الشعب وأحال ساكنيه على البطالة الاضطرارية و أعفى الحكومة ورئيسها وتولى بذلك كامل صلاحيات السلطة التنفيذية برأسيها وأحال لنفسه سلطات التشريع دون رقابة ولا يبدو القضاء في آخر الأمر بعيدا عن مرمى سهامه؟!ألم يعلن في 25 جويلية الفارط توليه رئاسة النيابة العمومية (قبل أن يتراجع عن ذلك) وقام في 22 سبتمبر بإلغاء (أو حل) الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وهي هيئة قضائية ينص عليها الدستور؟!
القاضي أحمد الرحموني
لكن قد يقال جوابا عن ذلك أن الأمر الرئاسي عدد 117 المعنون بتدابير استثنائية لم ينص على أحكام خاصة بالسلطة القضائية واقتضى تواصل العمل بجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع أحكام ذلك الأمر الرئاسي (الفصل 20)، مما يشير إلى أن مقصد قيس سعيد لم يكن في اتجاه تعطيل عمل السلطة القضائية وتبعا لذلك حل المجلس الأعلى للقضاء وتولي مقاليد القضاء بين الناس!؟
الرئيس يحكم بمقتضى المراسيم
لكن هذا لا يمثل إلا افتراضا لحسن نية المشرع الجديد، ويمكن تأويل الأمر على خلاف ذلك بالنظر على الأقل إلى إشارتين إثنتين :
الأولى: السكوت المطلق عن مآل السلطة القضائية (وتبعا لها عن مصير المجلس) رغم أن الأمر الرئاسي يتعلق في مضمونه بتنظيم السلط العمومية. وعلى سبيل المقارنة اقتضى التنظيم المؤقت الأول للسلط العمومية بعد الثورة الصادر بمقتضى المرسوم عدد 14 المؤرخ في 23 مارس2011 أن السلطة القضائية بمختلف أصنافها تنظم وتسير وتمارس صلاحيّاتها وفقا للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل (الفصل 17).
الثانية : الإقرار لرئيس الجمهورية بسلطة التشريع في جميع المواد بمقتضى مراسيم مع التنصيص صراحة على النصوص المتعلقة بتنظيم العدالة و القضاء (الفصل5) وهو ما يفتح الباب واسعا للمساس بضمانات السلطة القضائية وإعادة تنظيم المجلس الأعلى للقضاء وحتى حله.!
ومهما قلنا في هذا الصدد، ألا يمثل الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات (بحكم الخلط بين السلطتين التنفيذية و التشريعية) تمهيدا للتعدي على الهياكل الضامنة لحسن سير القضاء واحترام استقلاله!؟ لكن مع ذلك، ألا يحق لنا التنبيه إلى التداعيات الإنسانية والسياسية الخطيرة المترتبة عن تهديد السلطة القضائية في وجودها ودورها الأساسي في حماية الحقوق و الحريات؟!
اهتمام ملحوظ من جانب قيس سعيد بالشان القضائي
وفضلا عن ذلك، لا تبدو الإمكانات القانونية التي منحها قيس سعيد لنفسه كافية للوقوف على نواياه حيال المجلس، فهل يمكن من وجهة أخرى أن نقف على عناصر واقعية ترشدنا لذلك؟ يتضح أن عدد اللقاءات المعلنة التى جمعت ممثلي المجلس الأعلى للقضاء والمجالس القطاعية (و أساسا رئيس المجلس) مع قيس سعيد قد بلغ على امتداد عامين 8 لقاءات بداية من 11 نوفمبر 2019 و آخرها استقباله لرئيس المجلس في 4 اكتوبر 2021. ويظهر من ذلك اهتمام ملحوظ من جانب قيس سعيد بالشان القضائي إضافة إلى تعرضه في مناسبات عديدة إلى وقائع خاصة ببعض القضاة أو قضايا منشورة أو ظواهر عامة تتعلق بتسيير المرفق القضائي.
أما فيما يتصل بعلاقته مع المجلس الأعلى للقضاء ، يبدو أن مواطن الالتباس (أو حتى التجاذب) بين الطرفين قد تعلقت في المدة الأخيرة على الأقل بثلاث مسائل متفاوتة في أهميتها :
الأولى : التأخير في إمضاء الحركة القضائية السنوية (2021-2022) وفي الإذن بنشرها بالرائد الرسمي رغم إعلانها من قبل المجلس الأعلى للقضاء منذ 20 أوت الفارط وما ترتب عن ذلك من تأخير في عدد من الحقوق المالية (أساسا بالنسبة إلى القضاة الجدد) وتأجيل المصادقة النهائية على النقل و الترقيات و الوظائف القضائية.
الثانية : عدم إجابة المجلس الأعلى للقضاء من قبل رئيس الجمهورية عن إحالة الترشيح الحصري للقاضي المنصف الكشو لخطة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب، مع الإشارة إلى أن مصادقة المجلس قد تمت منذ 17سبتمبر 2021 وتستوجب إصدار أمر رئاسي في التسمية.وهو ما يدعو إلى التساؤل عما إذا كان ذلك التأخير بسبب شغور رئاسة الحكومة (التي تتداخل في التسمية بمقتضى الدستور) أو اعتمادا على ما ينص عليه الفصل 12من الأمر الرئاسي عدد 117 من أن رئيس الجمهورية يمارس التعيين و الإعفاء في جميع الوظائف العليا (وهو ما يشمل الوظائف القضائية السامية حسب بعضهم) خلافا للأحكام الخاصة الواردة بالفصل 106 من الدستور.
قيس سعيد يرى أن “تطهير البلاد يتطلب تطهير القضاء”
الثالثة: إعلان قيس سعيد منذ 4 أكتوبر الفارط عند استقباله لرئيس المجلس الأعلى للقضاء على نيته تطهير القضاء وذلك بتأكيده مباشرة ان “تطهير البلاد يتطلب تطهير القضاء حتى يضطلع بدوره التاريخي”. فهل يمكن أن يذهب قيس سعيد إلى حد الإعفاء على طريقة وزير العدل السابق نور الدين البحيري (نظام القائمات!) متجاوزا وجود المجلس و صلاحياته أم ينوي تنظيم إجراءات خاصة وانفرادية (بحكم السلطات التي ركزها) تغيب فيها الضمانات والشفافية وحكم القانون؟! وهو ما أدى سابقا إلى إلغاء قرارات الإعفاء من قبل القضاء الإداري.
فهل يكون للمجلس الأعلى للقضاء في رمزيته (لا في أشخاصه) ضحية في آخر المطاف لنوازع الهيمنة و الحكم المطلق؟!
شارك رأيك