الُنشطاء السياسيون، في تونس مثلا، والذين ينتمون إلى الأحزاب الدينية يعملون على تكريس هذا الإسقاط و الخلط بين العَلم الذي يُمثّل الدولة و الراية التي تُمثّل الحزب و الكتاب الذي يمثّلُ المقدّس بشقيّه السُنّي و القرآني. لذا ضرورة تدخّل البلوك تْشيْن كمنظومة رقمية رمزية حتى لا يقع احتكار و حصر الأفكار و الإيديولوجيات في مكان واحد و جهاز واحد ألا وهو الدولة.
بقلم ميلاد خالدي *
العقل العربي هو عقل جمعي وصالي التحامي، و ليس بالعقل الفَصلي التفريقي. جمعي باعتباره مُستعدًّا أن يجمع المتناقضات، وِصاليا يُريد أن يصِل الفصّ الأيسر من الدماغ بالفصّ الأيمن و التحاميا مُهيّأً أن يتحرّك ويعيش ككتلة واحدة مركزية مُدمجة لا ترغب في القطع و الفصل الذي هو أساس الحياة الذهنية و السياسية و الاجتماعية السليمة.
الُنشطاء السياسيون، في تونس مثلا، والذين ينتمون إلى الأحزاب الدينية يعملون على تكريس هذا الإسقاط و الخلط بين العَلم الذي يُمثّل الدولة و الراية التي تُمثّل الحزب و الكتاب الذي يمثّلُ المقدّس بشقيّه السُنّي و القرآني. لذا ضرورة تدخّل البلوك تْشيْن كمنظومة رقمية رمزية حتى لا يقع احتكار و حصر الأفكار و الإيديولوجيات في مكان واحد و جهاز واحد ألا وهو الدولة. البلوك تْشيْن هو سياسة الكُتلة حين تتوزّع على كُتلات ضامنة للكلّ، مُنفتحة على تفاصيل المجتمع وأطيافه لكنّها مُحصّنة من كلّ عملية استهداف و اختراق.
العَلم، الرّاية و الكِتاب…
نظريّا و وظيفيّا، الدّين و التديّن هما رصيدان من المشاعر والعواطف و الانفعالات مُركّزة في الفصّ الأيمن من الدماغ و الدولة بتنظيماتها و أجهزتها و مُعادلاتها مركزها الفصّ الأيسر البراغماتي من الدماغ. فمن علامات النبوغ و الإبداع أن يجد الشخص تداخلا و تناغما بين الفصّين الأيمن والأيسر ليبدع أكثر ويتفنّن أكثر، لكن الأمر مختلف حين يتعلّق ببراغماتية الدولة و تمظهراتها العقلية و العملية.
حين تكون متحزّبا دينيا فهذا لا يشفع لك أن تُدخل حزبك في دواليب الدولة، كما أنّه ليس من حقّك أن تجعل منها بوتقة تُذيب فيها مشاربك الدينية و قراءاتك التأويلية الدخيلة. الدولة كيان مستقلّ عن كلّ راية قُدّت من قماش غليظ و مُتحرّرة من كلّ كتاب سّماوي بّهي، حيث وجب النأي بهذا الأخير عن كلّ مناقصة رخيصة و مساومة قِيمية وضيعة. فالحركات الإسلامية المطالبة بتطبيق الشريعة في السياسة تنتهي في نهاية المطاف بالدولة الشريعة التي هي إفساد للشريعة ذاتها و تخدير للمواطنين كمُريدين.
من المتعارف عليه أنّ العَلم رمز للدولة، والراية رمز لمنظمة أو جمعية أو تكتّل أو حزب. فشكل ولون العَلم هما المُحدّدان لهويّة ذلك البلد إذ لا نستطيع، على خلاف الراية، أن نجد علمين أو أكثر لنفس البلد و إلاّ سقطنا في المُقاطعية و سياسة الأقاليم حتى الأنظمة الفيدرالية يُوحّدها العَلم مهما تعدّدت الولايات و المحافظات. العَلم هو الريادة والسيادة، هو الخيط الرفيع الناظم والجامع. وكُلّما تسلّلت الأحزاب و الإيديولوجيات إلى ثنايا الدولة و غلّفتها بالأهواء و التوجّهات إلاّ واهتزّت أركانها واهترأت أعمدتها.
العَلم أكثر شأنا من الراية، العَلم يجمعُ أمّا الراية فتُفرّق، العلم يُقدس أمّا الراية فتُدنّس، العلم يدعو إلى المصلحة العامّة، الراية تدعو إلى مصلحة الحزب و التوجّه الضيّق و هناك من يريد أن يضع الراية بدَل العَلم والكتاب المقدّس “القرآن” بدل الدستور. فإذا كانت الدولة حسب هيجل هي دولة العقل فهي منطقيا لا تتماشى مع الإيديولوجيات الحزبية و الحساسيات السياسية وإلاّ ستكون تسير عكس التاريخ حيث ليس هناك كتاب خُلق لكلّ مكان و زمان كما يذهبون.
البلُوكْ تْشَيْن المفروض…
إذا كان العِلم من العَلم و الراية من الغاية، فعلينا أن نختار العِلم و ليس الغاية فالغاية غايات وفي المأرب مآرب. من جبلّة العاطفة العربية عامّة و التونسية خاصّة أنّها تجمع ولا تُنضّد، تمزج دون دراية و يغفلُ عنها أنّ هذا الجمع و المزج هما أصلا البليّة و التخلّف و الفساد. في كتاب “سوسيولوجيا الدّين” يكتب دانيال هيرفيه ليجيه وجون بول ويلام (ص 67) ” إذا كان توكوفيل يخصّص مكانًا كبيرا للدّين فهذا لا يعني إعطاء السلطة للدّين، بل على العكس، إنّه يفعل ذلك كي يظلّ الدّين مستقرّا في إطار الدائرة الخاصّة به”. فكُلّما كان الدّين محصورًا في حدود الدائرة العقدية الموكول إليها و بعيدا عن ذؤابة السلطة كُلّما تحصّن وتوطّد، وبالتّالي يروّج لصورة مُغايرة وصادمة, تلك الصدمة الزمانية الموقظة.
الطفرة التكنولوجية التي نعيشها اليوم جعلت منّا ننتقل من المركزية إلى لامركزية الأنظمة فيما يتعلق بتخزين و معالجة المعلومات و توزيعها، يعني أنّ سياسة المركزية في فضاء واحد و هيكل واحد وتجميع الأفكار والبيانات في كتلة واحدة يؤدي إلى الفشل و التحيّل و الإتلاف. لا سيّما حين تُعتبر أنّ للدولة ثقوبا و يأتي المتحزّب الديني كي يملأها ويسدّها. يجب أن تكون الدولة ذات نظام بلوك تْشيْن Blockchain حيث يجب أن تكون شفافة في التعامل، غير قابلة للتغيير، مباشرة وسهل الوصول إليها دون وساطات و أخيرا و ليس أخرا مستقلّة قائمة بذاتها بمعنى ليست مملوكة لكيان واحد أو هيكل وحيد.
ففي حال ولجت الراية والكتاب كيان الدولة فلن تكون شفّافة و ستذهب بعيدا نحو الضبابية و الغموض و المواربة خدمة لمصالح الحزب النافذ المتنفّذ. فضلا عن أنّه سيقع تغيير نظمها وقواعدها و دواليبها كي تتماشى و توجّهات الراية الضيّقة والخانقة و الكتاب السّميك، ولن تكون بالتالي مباشرة إذ ستكثر الوساطات للوصول إليها من قبيل ” الأقربون أولى بالمعروف”. لذلك جاءت البرمجيات الحديثة لتقول لنا أنّ البلُوكْ تْشَيْن هو الأنسب و الأفضل للذين يعتقدون أنّ الدولة قادرة على استيعاب كلّ شيء مهما كان النشاز على أشدّه. فلِم لا تكون الراية و الكتاب كتلا مُنفصلة ومُتّصلة في آن لأنظمة لا مركزية مُتصلة تخدم المشارك و المساند أو بعبارة أخرى تخدم الدولة و الشّعب على حدّ السّواء.
ثبتَ عبر التاريخ أنّ الرّمز الديني أشدّ فتكا بالدولة من الايدولوجيا وأنّ تجميع الأفكار و السُلط في يد واحدة و كتلة واحدة يكون مآله التعسّف و الطغيان. ومهما تأوّلنا فحريّ بنا أن تتوفّر سلسلة من الكُتل قادرة على استيعاب جميع الحساسيات و الإيدولوجيات و حتى الانحرافات و حسن تصريفها و النأي بها عن التكتّل الواحد لأنّ هذا الأخير يأخذنا في الغالب إلى مساحات لولبية مُرعبة أقلّ ما يقال عنها أنّ القدم فيها تتعثّر سريعا و العقل يتآمر بين الحين والحين و الدولة تُستباح و الشّعب يُغيّب.
* كاتب,
شارك رأيك