ماذا عن دلالات 25 جويلية؟ يطول الحديث في هذا الشأن، وتتقارع الآراء بين انقلاب (“دستوري” أم غير دستوري؟)، أو ثورة داخل الثورة؟ أم هو نفخُ روح جديدة في الدّولة من أجل إنقاذها وإعادة تأهيلها؟ أم هي ولادة تسلّط شعبوي تتويجا لعشرية التّفاهة والعبث السياسي الذي رهن البلاد والعباد؟
الشيء الثابت إلى حدّ الآن هو أنّ ما أتاه قيس سعيّد تكريس لإفلاس الطّبقة الحاكمة منذ 2011. وقد أفضى إلى تعرية تقاعس المعارضة وهزالها، وحالة الإنهاك التي أصابت منظومة الأحزاب القائمة عموما. هو في تناغم تام مع رفض جزء كبير من المواطنين لمسار “الانتقال” والوفاقات المغشوشة التي رافقته وكيّفته. على أنّ هذه المشاعر تخفي، أيضا، استياءًا كبيرا لئن ينمّ، بالتأكيد، على رغبة حقيقية في دولة اجتماعية، فهو يختزن، في نفس الوقت، استعدادا شعبيا لخوض مغامرة شعبوية. فالخطابات الأعجمية لقيس سعيّد، رغم ما يعتقده من فصاحة لسان، بداية من خطاب ديسمبر 2020 في سيدي بوزيد الذي رجّح فيه الانتفاضة الاجتماعية في 17 ديسمبر 2010 على انتفاضة 14 جانفي 2011 المطالبة بالحريات والديمقراطية، يطرح أكثر من سؤال عمّا إذا كان الرّجل قد جرفته الكلمات واستبدّت به حمّى الخطابة فغلب اللّفظ المعنى، وهرب اللّغو بالفكرة، أم أنّ في قاع الرّجل شعور صادق منذ البداية بأنّ في حكاية الديمقراطية والحريّات أكثر من واوٍ وأنّهما لَحْمَةُ المترفّهين قياسا بخبز المغبونين. يبدو أنّ الشّعبوية تُبنى هكذا على المشاعر الصادقة… البدائية.
الشبكات الاجتماعية تفرض مناخا من التعصّب حول الرئيس سعيد
على أنّ الذي تجب الإشارة إليه، أيضا، هو انخراط عدد كبير من الشبان وغير الشبّان في خيار سعيّد والاصطفاف وراءه. ودون التوقّف طويلا عند البؤر الأمنية ذات النّزعة الفاشية التي اجتاحت الشبكات الاجتماعية لفرض مناخ من التعصّب حول الرئيس، وشيطنة جميع الحساسيات التي تقف موقفا نقديا من إدارته للوضع، فلا مناص من التسليم بوجود ولع حقيقي بما يرون فيه مشروعَ الرئيس رغم أنّ بعض مرارة وإحباط يتراءيان وراء الانتشاء بالحدث. فالانتفاضات ليست دائما محمولة على جناح الأمل بل تسكنها أيضا الأهواء الحزينة.
هذا، وقد تمّ الاستحواذ على السلطة على مرحلتين: الأولى، كانت كما هو معلوم، يوم 25 جويلية، حين أبدى الرئيس استخفافا بالقانون في تأويله للفصل 80 من الدّستور رغم أنّ ما قام به يمكن أن يعزى للخلل المؤسّسي الذي أصبح يشكّل خطرا على مصير الدّولة، وسببا في وضعٍ سياسي كارثي لم يزد الحياة اليومية للتونسيين سوى هشاشة خاصة في سياق الجائحة الذي عاشتها وتعيشها البلاد.
وبإمكان الرئيس أن يحتجّ أيضا بالمساندة الكثيفة التي حُظيت بها الإجراءات الاستثنائية التي أقرّها. وسواء كان هذا المدّ الشعبي زائلا أم دائما، أو نابعا من حنين إلى سلطة الرجل القوي، أيّا كان نوعها، أو وليد تطلّع إلى أخلقة الحياة السياسية… فإنّه يظلّ أمرا واقعا لا جدال فيه، إذ لا يمكن أن نزيح، باسم القيم الدّيمقراطية، وبجرّة قلم، الفاعل الذي قامت الثورة باسمه.
تلك كانت الأوضاع قبيل 25 جويلية وقد بلغت درجة من الاختناق بما تطلّب خروجا ملحّا من المأزق الذي وقعت فيه الدّولة. ورغم الطريقة القانونية المشبوهة إلى حدّ كبير والتي أوقف بها النّزيف، فقد لقيت ترحابا حقيقيا تجاوز أنصار الرئيس ذاته. ثمّ كان يوم 22 سبتمبر وما تبعه من مرسوم رئاسي 117 ليفتح على أفق لا يوحي بأنّ في الأفق ديمقراطية قادمة بل بأن القادم قد يكون إلى المأزق أقرب.
تونس تحت برج التناقض المستحيل أو المأزق المزدوج
هكذا أصبحت البلاد تعيش تحت برج التناقض المستحيل أو المأزق المزدوج الذي تناوله بالتحليل بعض المحللين الأكثر انتباها للمفارقات والدّقائق.
إنّ التشبّث بالقانون أمر ضروري، لكن القانون وحده غير قادر على توضيح صورة الوضع الاجتماعي والسياسي الذي تغرق فيه البلاد. فالنّزعة القانونية التي طبعت المسار الديمقراطي قد أصابها الوهن. يتوجب، بالمقابل، الانتباه إلى خطورة التضحية بالقانون ودولة القانون والرّمي بهما عرض الحائط بدعوى تعطّل “الانتقال” أو فشله وضرورة تخطّيه، خاصّة وأنّ ما رافق ذلك من تهجّم على نصّ الدّستور برمّته، وقذفٍ طال أهل القانون على الشبكات الاجتماعية لا ينبئ بخير في هذا الصّدد. إذ يخال أنّنا انتقلنا من تقديس الدّستور إلى الحقد الشعبوي على القواعد القانونية والاستهتار بها. فالشّعبوية تترعرع داخل الفراغ القانوني واللامعيارية لأنّ مفهوم “الشّعب” الذي تستند إليه لا يتماهى مع أي تعريف اجتماعي أو ثقافي أو قانوني. فشعب الشعبوية ظاهرة صوتية خطابية، وخطاب قيس سعيد أفضل تجسيد لهذه الشعبوية الصّرفة.
قبل انتخابات 2019، كان المشهد ما بعد الثوري وواجهته الإعلامية مرتعا لشعبوية متعدّدة الأصوات والمظاهر حيث تُقدِّم مختلف الخطابات الشعبوية نفسها كصيغ قصووية لتيارات سياسية موجودة سابقا. فكانت لحظة سعيّد بمثابة احتكار للكلمة الشعبوية، أجبرت الشعبويات المنافسة على الانكفاء على حجج الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات التي كانت تضرب بها عرض الحائط بالأمس القريب. مع ملاحظة أنّ هذا التوجّه قد ساعد على تدعيمه لعب الرئيس على أوتار السيادة إثر توتّر العلاقة مع بعض العواصم الغربية.
أكيد أنّ هذا الزّلزال قد أعاد رسم الخارطة السياسية للبلاد، حيث وجد الإسلام السياسي نفسه في وضعية دفاعية وقد طفت انشقاقاته على السّطح وبلغته رسائل الاستياء التي وصلت أحيانا حدّ الكراهية التي يكنّها له جزء كبير من الشّعب، في حين تحلّلت صفوف حلفائه، ووقفت المعارضة والاتحاد العام التونسي للشّغل يبحثان عن بوصلة لهما في خضمّ التّطوّرات المفاجئة وانتظار ما ستؤول إليه الأمور، وأضاع الحزب الدّستوري الحرّ السّبيل ليجد نفسه مقتصرا، في شخص رئيسته، على بعض التصريحات والشطحات (التي لم تفقد تماما صداها على ما يبدو، وإنّ غدا لناظره لقريب) …
النّظام القديم، والإسلام السياسي، والعائلة الديمقراطية
أمّا عن المجتمع المدني، الذي يهمّنا بالدّرجة الأولى، فقد بدأت تظهر تباينات واختلافات بين المدافعين عن الشّرعيّة الدّيمقراطية والنّاشطين العازمين على خوض المعركة مع المنظومة المسؤولة عن “العشرية الضّائعة” الذين أعلنوا مساندتهم، الصريحة، أو بصوت خافت بالنسبة للبعض، للإجراءات الرئاسية. وقد كان هذا التّشتّت بمثابة محنة جديدة تواجهها التّضامنات الهشّة، والمتقطّعة، وغير الواضحة أحيانا. فالمجتمع المدني تشقّه توجّهات لا تتقاطع دوما مع التوجهات التي تشقّ المجتمع السياسي إذ تظلّ مسألة الدّفاع عن الحقوق والحريات مقابل التّشبّث بالمسألة الاجتماعية من المسائل المعقّدة في ظلّ سياق ما بعد 25 جويلية من حيث التّضارب (المصطنع أحيانا) بين المناداة بالإبقاء على الوضع القانوني القائم وإرادة الرّبط من جديد مع التّطلّعات الاجتماعية الأولى للثورة.
غداة 25 جويلية، وبصرف النّظر عن هذه الخلافات التي تبقى سطحية في آخر المطاف، ظلّ الخطّ الفاصل المتولّد عن انتفاضة 2010/2011 هو نفسه تقريبا والمجسّد في المثلث التقليدي الموزّع بين أطراف النّظام القديم، والإسلام السياسي، ومختلف التوجّهات داخل العائلة الديمقراطية.
بالمقابل، فإنّ 22 سبتمبر قد يؤثّر على المشهد السياسي والمدني بطريقة مغايرة من خلال إحداث استقطاب بين تجمعات جديدة. فالشارع منقسم، اليوم، بين معارضين “للانقلاب الرئاسي” بمساندة الخاسرين السياسيين جرّاء حدث 25 جويلية (“الترويكا البرلمانية” السابقة إجمالا) وأنصار قيس سعيّد الذين يمثّلون خليطا غير متجانس تجمعه الكراهية المشتركة للإسلام السياسي ليس غير، وتغذّيه بؤر حثيثة النشاط على الشبكات الاجتماعية (تلقائية كانت أم مسيّرة؟) والخطابات العصماء والثأرية للرئيس والمتبوعة أحيانا بإجراءات اعتباطية سرعان ما تُهلَّل لها جحافل المساندين.
س سعيّد لا يحاور بل يتّهم فقط
على أنّ هذه المواجهة بين مختلف الأطراف تخفي الرّهان الدّيمقراطي الحقيقي، وهو أنّ قيس سعيّد لا يحاور، هو يتّهم فقط؛ وأنصاره لا يحاجّون أو يناقشون، هم يصفّقون فقط، وهو ما يجعل من اللّحظة التي نعيشها، لحظةً توقّف فيها الزّمن السياسي ليبقى عالقا.
هذه الرجّة التي قسّمت العائلة الديمقراطية زجّت بعدد كبير من الفاعلين في منطقة رمادية لا خيار فيها بين “القطرة والميزاب”، بين الشرعية الدّستورية بكلّ ما تحمله من مخاطر العودة إلى مأزق ما قبل 25 جويلية، أو الإجراءات الاستثنائية ومخاطر الانحراف نحو الحكم الفردي.
ولعلّ في حالات الصّمت، والتردّد، وحتى الغضب المكتوم ضدّ تصرّفات رئيسٍ لا نراه سوى متحدّثا إلى نفسه ومنصتا لصدى خطابه لا أكثر، لدلالة على فقدان البوصلة الديمقراطية أمام الانقلاب الفجئي لقواعد اللّعبة والأزمة التي ضربت الأُطر القديمة لتفكيرنا ونشاطنا النضالي.
على أنّ الصّعوبة المطلوب تخطّيها هي تفكيك التوّتّرات، وسوء الفهم أحيانا، بين الأشكال التعبوية التقليدية المستندة إلى فكرة أنّ التغيير المؤسّسي هو مفتاح التغيير الاجتماعي، وأشكال النّضال الجديدة التي ما فتئ يُبدعها الشباب والتي ليست بدورها بمنأى عن الانحرافات والمآزق. ولا ننسى هنا أنّ العديد من حركات الشباب تسعى إلى إضفاء معنى على لحظة 25 جويلية تتجاوز الأفق الذي وضعه ضمنها قيس سعيّد، وأنّها ليست غافلة عن الوهم الشعبوي “للمنقذ الأكبر”.
هذا التّقابل وجها لوجه بين الرئيس وشعب “الأنصار” دون المرور بمؤسسات وسيطة يدعو، أكثر من أيّ مضى، إلى الحاجة إلى مجتمع مدني مبادر، وجريء، وقادر على حلحلة الخمود الديمقراطي.
السيناريوهات الممكنة
حاليا، أمامنا عدّة سيناريوهات ممكنة:
إمّا أن نبقى في هذه اللّخبطة المؤسسية والقانونية لمدة طويلة…
وإمّا المرور إلى الاستفتاء وتنصيب نظام رئاسي سينزلق في المنحدر الطبيعي للرئاسوية…
وإمّا حكم فردي لا يخرج عن دائرة بيع الكلام والثرثرة ولا يجرؤ على التقدّم مستندا في ذلك إلى القوّات المسلّحة مع مواصلة الادّعاء بأنّه مسنود من الشّعب…
فالتسلّط، سواء كان باسم الشّعب أو بموجب استفتاء شعبي، يظلّ تسلّطا.
أمّا السيناريو البديل فهو استعادة عملية البناء الدّيمقراطي القائمة، أساسا، على الإصلاحات الاجتماعية، ويبقى ذلك، إلى حدّ كبير، رهين تعبئة مجتمع المقاومة المدني.
وأخيرا، فإنّ قضية قيس سعيّد، كانت لتكون على غاية من البساطة لولا مساندة قسم كبير من الشباب له. وهي مساندة مشروطة بمقاومة “السيستام”، (وهل يتسنّى له ذلك ببوليس النظام القديم، وقضائه؟). وليس من باب الطوباويّة أو أضغاث الأحلام المراهنة على هذا الشباب وقدرته على تبيّن الأمور، وبراغماتية الحركات الشبابية التي تملك من الموارد الفكرية والسياسية ما لا ندركه أحيانا أو نجهله. ولعلّ المطلوب منّا بكلّ إلحاح هو مساءلة هذه الموارد، تحديدا، لأنّه لا مجال للتفكير في الغد، ووضع تصوّرات المستقبل بدونها أو في تصادم حدّي معها.
لمقارعة وجهات النظر حول 25/7 و 22/9 وحول مبادرات قيس سعيّد دعت جمعية نشاز كل من آمال قرامي (أستاذة جامعية في الاسلاميات ودراسات الجندر) و منصف بن سليمان (جامعي رئيس جمعية “لمّ الشمل”) و مهدي العش (باحث ومحرر في موقع المفكرة القانونية).
شارك رأيك