لا بُدّ لمؤسسة رئاسة الجمهورية اليوم أن تفهم أن الوضع في تونس حسّاس وخطير للغاية يتطلب التحرك بسرعة في جميع الاتجاهات بذكاء وبرودة دم وحكمة، فلا يسعى لإغضاب أي طرف على أي طرف، ولا يسعى للتناوش مع أي فئة أو التصلب في أي قضية، فاليوم احتجّ مكب النفايات في عقارب بولاية صفاقس وغدا ربما في جزيرة جربة حيث تعاني هي الأخرى هذه المشكلة البيئية منذ سنوات، و ربما في عديد المناطق و المدن الأخرى التي تعاني هب الأخرى من مصاعب.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد *
الحكمة مطلوبة في مثل هذه المواقف العصيبة والحسّاسة التي تمرّ بها تونس، لذلك ينبغي على الدولة أن تتفهم الغضب الشعبي تجاه أي قضية من القضايا المهمة كالبيئة والشغل والتنمية وغيرها من الملفات التي تتسبب عادة في تأجيج الشارع التونسي وتُبقيه في حالة استعداد واستنفار قصوى لتغيير مجرى الأحداث.
قد تكون هناك أيادي خفيّة دائما تترصّد مثل هذه الفجوات لتمرير أجنداتها السياسية وها هو اليوم الاتحاد العام التونسي للشغل يتمدّد في هذه الاحتجاجات التي جرت وتجري في مدينة عقارب للإعلان عن إضراب عام في هذه المدينة، وربما تمتد الاحتجاجات لتشمل ولاية صفاقس عمومًا، وحينئذ ستكون الطامّة الكبرى.
لا يمكن أن تستمر المعاناة البيئية للسكان
ما جرى تعبيرٌ عن رفض أهالي المدينة فتح مكبّ النفايات الذي أُغلق من قبلُ نتيجة تراكم النفايات وتضرّر الأهالي المباشر في المنطقة سواء بالروائح المنبعثة أو الأمراض المنتشرة لا سيما مرض السرطان الذي كثرت أعداد مصابيه في الفترات الأخيرة، فتوجّس الشعب خِيفة أن تستمر هذه المعاناة البيئية مع المعاناة الاقتصادية والاجتماعية فعبّر عن رأيه بوضوح تام أنه يرفض أي إجراء بالقُوة في هذا المجال، وتطورت الأوضاع بعد أن وضع الأمن أقدامه لمواجهة نزيف الاحتجاجات وقُتل شابّ على إثرها سواء بنوبة قلبية كما تقول الجهات الرسمية أو بفعل الغاز المسيل للدموع عند الإصابة المباشرة بحسب منظمات حقوقية والاتحاد العام التونسي للشغل، فإن سقوط قتلى في هذه المظاهرات يعني يمكن أن تتأجج الأوضاع في أي وقت من الأوقات وتجد لها آذانا مُصغية وتتطور الأحداث بصورة لا تريدها الحكومة ولا الرئاسة في هذه الفترة.
لا بُدّ لمؤسسة الرئاسة أن تفهم أن الوضع في تونس حسّاس وخطير للغاية يتطلب التحرك بسرعة في جميع الاتجاهات بذكاء وبرودة دم وحكمة، فلا يسعى لإغضاب أي طرف على أي طرف، ولا يسعى للتناوش مع أي فئة أو التصلب في أي قضية، فاليوم احتجّ مكب النفايات في عقارب وغدا ربما في جزيرة جربة حيث تعاني هي الأخرى هذه المشكلة البيئية منذ سنوات، وزادت عليها مشاكل الهجرة والبطالة والتنمية وكثرت الشكاوى وقلّت الاستجابة إلى درجة الصفر مما يوحي بتفجر الأوضاع في أي وقت وأي حين، ولا بد لمؤسسة الرئاسة ورئاسة الحكومة في هذه الفترة العمل على تهدئة الأوضاع إلى أدنى مستوى حتى لا تمنح الفرصة لمعارضيها للتحرك من جديد بعد أن لمسنا في الفترة الأخيرة تراجعا من قبلهم، وبعد أن عرض الشيخ راشد الغنوشي على رئيس الجمهورية الاستقالة إن كان ذلك يفيد تونس.
قد يكون الحل في اللإمساك بالعصا من الوسط
وأعتقد أن على رئاسة الحكومة أن تستغل الفرص التي توجدها الأوضاع الحالية للإمساك بالعصا من الوسط، حيث لا إفراط ولا تفريط، ولا مواجهة ولا تأخر، فالشعب التونسي يتعرض لضغوطات نفسية واجتماعية كبيرة في هذه الفترة أكثر من أي وقت مضى، وبدأت آثارها تظهر في العلن مما يوحي بنشوء سيناريو مخيف ومرعب، فعندما نتحدث عن اعتداء تلميذ بساطور على أستاذ أو معلم كما حدث ذلك أول أمس في معهد بمدينة الزهراء، وعندما نتحدث عن مواطنة تونسية تذبح طفليها وتنتحر لخلاف بينها وبين زوجها، وعندما نشاهد الشباب يتعاطى المخدرات وحبوب الهلوسة بكثرة ودون هوادة، وعندما نرى تردي الأخلاق إلى أدنى مستوى، وحينما ينتشر الاحتكار والتحايل على الشعب، وعندما تتراخى الحكومة الجديدة في أداء عملها، كل ذلك أسباب ومسببات كأعواد ثقاب يمكن أن تُشعل نار العداء والفوضى في البلاد.
فرئيسُ الجمهورية عندما اتخذ الإجراءات الاستثنائية، سانده في ذلك كثير من الشعب التونسي رغبة في إنهاء حالة الفوضى في البلاد وعملا بمحاسبة الفاسدين والمحتالين، ولكن عندما تتغير الوجهة نحو إيقاف رغبة الشعب لتغيير الحالة الاستثنائية التي يعيشها من فقر وبطالة وتهميش سيتراجع عن دعم الرئيس في كل الأحوال، فالقضية مرتبطة بما تقدمه مؤسسة الرئاسة من عمل جِدّي لحلّ المشاكل لا لتراكمها بعضُها فوق بعض، وبالتالي أقول مرة أخرى إن الحكمة مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى لمصلحة تونس الخضراء الجميلة بشعبها، والمسارعة إلى إنهاء حالة الجمود السياسي من خلال الدعوة إلى انتخابات تشريعية لتأسيس برلمان قوي يكون سندا عظيما للإجراءات الرئاسية الجديدة ومنها تغيير النظام السياسي وتنقيح الدستور التونسي.
وحتى لا تعمّ الفوضى، فإن التعنّت والمواجهة وعدم الجنوح إلى البحث عن حلول سريعة لتضميد الجراح قبل أن تتعفّن، ضرورة لتحقيق التوازن في البلاد، وحتى لا تترجّح كفّة على كفّة أخرى فتقلب الموازين رأسًا على عقب، وحتى لا تتعكّر الأوضاع ولا تتردّى إلى أسوأ مما عليه الآن فإن التدخل السريع والحكيم لإيجاد الحل المناسب والوسط الذي يرضي الأهالي سيخفف من وطأة ما حدث، ويستجيب الجميع لمنطق العقل.
* محلل سياسي.
شارك رأيك