ما تعيشه البلاد التونسية طيلة العشرية الأخيرة من سلسلة هزّات وتقلّبات فى مراكز السلطة والقرار يٌثير أكثر من نقطة استفهام حول الأسباب الخفية التى حالت دون استكمال “مشروع دمقرطة” الدولة الوطنية …
بقلم محجوب لطفى بلهادى *
باعتبار ان حاضر الدول يتشكّل من خلال قدرتها المزدوجة على التفاعل النقدى مع ماضيها واستشرافها للمستقبل، فإن “إفريقيّة” الأمس و”تونس” اليوم لن تشذ عن هذه القاعدة العامة فى فهم سيرورة الأمم والدول.
فتونس بامتدادها الجغرافى المحدود للغاية مقارنة بجيرانها لم يكن لها ان تحتل قلب مخبر “الرّبيع العربى” لو لم تكن سليلة الحضارة القرطاجنية، ولو لم تكن أيضا منطلق لحركة نهضوية إصلاحية كبري الأكثر تجذر فى العالم العربي والاسلامى فى المنتصف الاول من القرن التاسع عشر…
إلا أن هذا المولود المخبرى Bébé éprouvette أثبت عدم قدرة كافية على الصمود فى مواجهة رياح الداخل والخارج السّموم والمٌتقلبة، وان أية هزة كفيلة بالارتداد به إلى الخلف وبسرعة فائقة .
بمنأى عن اختزال مسألة الإخفاق فى مشروع الدّمقرطة فى ظهور شخصيات متسلطة بعينها أو جماعة سياسية عقائدية منغلقة على غرار حركة النهضة، يظل السؤال الكبير المٌعلّق الذى يتوجّب علينا الاجابة عنه بمنتهى الجرأة والأمانة العلمية : كيف يمكن تفسير هذا الفشل المدوّى والذّريع بأدوات التاريخ السياسى ؟
غير بعيد عن قصة “الخطيئة الأصلية” le péché originel ، فإن السباحة ضد تيارات التاريخ الجارفة والقفز عن احداثياتها الكبرى، تارة بالتغييب وتارة بالتهميش تٌعدّ أحد أكبر “الخطايا الأصلية” التى من شانها أن تؤدى ضرورة إلى السقوط فى أول اختبار تاريخي مفخّخ .. فتتالت الاخفاقات والخطايا الاصلية الواحدة تولى الأخرى :
الخطيئة الأصلية الأولى :
حالة الانكار الجمعى المتواصل لأحد أسس هويتنا القاعدية المٌركّبة ذات العلاقة بالإرث النوميدى الامازيغى وتغييبنا الممنهج لشخصية “ماسينيسا” فى المناهج الدراسية والبحوث الاكاديمية…
الخطيئة الأصلية الثانية :
تقزيمنا الغير مبرّر للإرث الحٌسينى – الدولة الحسينية – الذى ساهم فى نحت الشخصية التونسية المعاصرة على امتداد ما يناهز القرنين ونصف (من سنة 1705 الى 25 جويلية 1957 ).
فالحقبة الحسينية الطويلة – شئنا أم أبينا – بسلبياتها العديدة وجرائمها الغير مغتفرة فى وضع البلاد تحت الوصاية الاستعمارية الفرنسية كانت لها ايضا لحظات تاريخية مضيئة، منها :
1- بداية الانعتاق من حكم “الباب العالى” العثمانى المقيت وتشكّل دولة تونسية بملامح محليّة.
2- الشروع فى حركة إصلاحية حقيقية غايتها عصرنة الدولة فى أبعادها السياسية ( عهد الامان) والدستورية (دستور 1861) ، والاجتماعية (الغاء الرق) الخ الخ.
3- الاسهام فى تحقيق أوّل ممارسة ديمقراطية فى تاريخ البلاد من خلال تنظيم انتخابات “المجلس القومى التاسيسى” بأمر علىّ (صادر عن الباى) وغيرها من التشريعات الرائدة، من بينها على وجه الخصوص :
– إصدار “مجلة الاحوال الشخصية” بتاريخ 13 أوت 1956
– توحيد النظام القضائى التونسى وحذف المحاكم الشرعية عملا بالأمر العلىّ المؤرخ فى 25 سبتمبر 1956
– تأسيس الجيش الوطنى التونسى فى 30 جوان 1956
– تونسة الأمن التونسى بتاريخ 18 أفريل 1956
– الانطلاق فى وضع منظومة صحية عمومية رائدة فى مجالها العربى والاسلامى على يد الطبيب المناضل محمد الماطرى (أحد مؤسسى الحزب الدستورى الجديد، المعروف بقربه الشديد “بمنصف باى” وتقلده للعديد من المناصب الوزارية العليا من حكومة “شنيق” الى تعيينه فى منصب وزيرا للصحة فى 15 أفريل 1956)
تجربة ثرية كان من المحتمل، وفق نظر عدد من المتخصّصين فى الشأن التاريخى، أن تٌفضى إلى تأسيس ملكية دستورية رائدة وقوية فى المنطقة …
الخطيئة الأصلية الثالثة :
تنكّر الزّعيم الراحل الحبيب بورقيبة لوعوده المتعلّقة بالتعددية والانفتاح السياسى فى البلاد مما دفع بالعديد من قادة الحزب والدولة الألمعيين أنذاك على غرار المناضل الراحل أحمد المستيرى الى الاستقالة سنة 1971 مما اسهم فى اقحام البلاد فى فلك “جمهورية نوازع الفرد” التى تكاد لا تنتهى
خلاصة القول، بات من الواضح اليوم بما لا يدع مجال للشك، أننا جميعا دون استثناء نستبطن كفاءة عالية فى إهدار الفرص فى أوّل اختبار جدّي وموجع مع التاريخ!
* باحث متخصّص فى التفكير الاستراتيجى.
شارك رأيك