حسب الدراسات العلمية، المكان الذي نحتلّه و الزمان الذي نشغله و المسؤولية التي نتحمّلها تُغيّر مجرى قراراتنا و اتّجاه خياراتنا نتيجة لتغيّر مجرى رؤيتنا و اتّجاه موقفنا. فالمكان على سبيل المثال ليس فضاءً فحسب و إنّما هو حمّال مشاعر و أفكار و سلوكيات، بالتالي فمنطقة الرّاحة ليست هي نفسها منطقة المواجهة و التحدّي فكلّما اختلفت زاوية المكان اختلفت معها زاوية النّظر. فما بالك إن كان المكان يحوي سلطة ما تُجاه أشخاص و أشياء و حتى رموز…
بقلم ميلاد خالدي
كرسي الحديقة….
غالبا ما تجد كرسي الحديقة محجوزا غير شاغر، ومن يرتاده، كثيرا ما يُطيل الجلوس عليه. فإن تجلس على كرسي الحديقة هو أن يكون خلفك الأجواء مفتوحة. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تقبع في دائرة الراحة. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن يكون لديك موقف، توجّه، وردّة فعل مُتسامحة. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تقفز على الجدار ثمّ تقف على الربوة و تتأمّل. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن ترفع رأسك وتقول إنّ السّماء زرقاء و غيومها بعيدة. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تقول نعم، أن تقبل و لا ترفض. هو أن تسترسل في الحديث و لا يحُدّك شيء. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تضع يدك في يدي، أن تدعمني، وأن تضع راحة يدك على كتفي. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تُنظّر وتُخطّط، في سبيل أن تجد حاضرا و مستقبلا هُلاميا. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن لا تأخذ مسافة من الأشخاص و الأشياء، أن ترمي القفّاز الذي أهدوه لك حتى يكون زمن المصافحة مُمتدًا و تأثيرها أعمق أكثر من كونها قشعريرة مزعجة.
أن تجلس على كرسي الحديقة هو أنّه يمكنك أن تتحكّم في الفضاء و حتى في الزمن و أن تقرّر متى تأتي و متى تنصرف. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تقوم بكلّ شيء الآن، و ليس غدا. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أنّك لا تُفرز كلماتك ولا تُغربل مفرداتك قبل أن تتكلّم. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تشاكس من تتحدّث إليه. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تلعب الورق و تخسر اللعبة ثم تنصرف راجعا إلى بيتك لأنّك ضحكت كثيرا و نسيت كثيرا. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تجتمع بالجماهير و تختلط بالجموع و تمتزج دمائك بدمائهم. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن ترتدي ربطة عنق مريحة و ترتشف قهوتك على مهل لأنّ ملفات كثيرة في انتظارك على حافّة المكتب. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تكون منظّرا حاذقا، أن تكون مرِحا لا مزاجيا. أن تجلس على كرسي الحديقة هو أن تجلس على كرسي الحقيقة أوّلا ثم تعدّل جلستك…
كرسي القصر…
نادرا ما يكون كرسي القصر شاغرا فهو يحمل كامل هوسنا به ومن يصل إليه يُصاب بحُمّى الكرسي. و كرسي الحديقة لا يختلف عن كرسي القصر في زمن تملّكه. فأن تجلس على كرسي القصر هو أن تعترف بوجود الجدران السميكة القابعة أمامك و خلفك. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تقبع في دائرة التحدّي و المواجهة. أن تجلس على كرسي القصر هو أن يكون لديك رأي أحادي وردّة فعل متصلّبة. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تدخل المُعترك وأنت تنزل السُلّم نحو الهُوّة و الهاوية، وأن لا ترى سوى السقف. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تقتضب الحديث، أن تضع يدك في جيبك و تؤجّل أعمال اليوم.
أن تجلس على كرسي القصر هو أن تُفرز و تُغربل ثمّ تُقرّر، ثمّ تقول لا، أن ترفض قبل أن تقبل. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تُراكم القوانين كي يتسنّى لك صنع شيء ما، حتى تتمكّن من أخذ مسافة من الأشخاص و الأشياء. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تضع قفّازا لأنّ برد القصر شديد و مصافحة الزوّار لن تكون حينها صادقة و عفوية. أن تجلس على كرسي القصر هو أن يخونك الفضاء و يهجُرك نحو فضاءات مفتوحة أخرى. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تلتفت يمينا و شمالا قبل أن تنبس ببنت شفة. المشاكسة مع من تتحدّث إليه طور مرفوض لأنّ السلطة ترفض ذلك و لا تستحبّه. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تلعب الشطرنج مع رئيس الديوان و تعود إلى غرفتك متصلّب الظهر لأنّك بكلّ بساطة وضعت نفسك في مكتب مربّع الشكل مع مربّعات شطرنجية، تقول للفارس، أنا الملك، تنحّى جانبا حتى أمُرّ. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تكون عمليا مُبتكرا بالضّرورة. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تكون minimaliste و من مساندي حملة ‘قلّل و دلّل’. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تقرأ حساب مرَحك و يقظتك. أن تجلس على كرسي القصر هو أن تفتح النافذة قبل الباب وتُطيل في الرِجل اليمنى من الكرسي.
الكرسي هو ثقافة السلطة حين يُرمز للمكان على أنّه خطاب مزدوج. ثقافة عابرة تُشرّع إلى أنّ الذي يقف أمامنا هو الذي يحدّد خيارنا. سيظلّ كرسي الحديقة وهم من أوهام الحياة لأنّه نأى بنفسه عن كلّ أشكال المواجهة. لكن في المقابل يبقى كرسي القصر التحدّي الكبير الذي يفشل في اختباره أغلب القادة والسياسيين.
* كاتب.
شارك رأيك