من يعتقد أن مناهضي مسار 25 جويلية و ما بعده حريصون على البناء الديمقراطي و على الديمقراطية نفسها، فهو واهم، و من يعتقد أن دفاعهم الشرس على الدستور و القانون و الإجراءات السليمة نابع من صلب إيمانهم العميق بفلسفة الأنوار و بالإرث السياسي اللاتيني، فهو أيضا واهم و ليراجع نفسه و سنأتي على إبراز هذه الأوهام في مقالنا هذا.
بقلم توفيق زعفوري *
أولا كان آخر اهتمامات منظومة 24 جويلية هو محاربة الفساد و الفاسدين و ملاحقة أذنابه و باروناته و لوبياته، ليس لعدم الخبرة في ذلك و لا لعجزهم عن محاربة الفساد و لكن لأنهم ببساطة كانوا يشتغلون في تناغم تام و بأريحية كبيرة و يتغذون من الفساد حتى أن الإفلات من العقاب كان العنوان الأبرز في فلسفتهم السياسية الجديدة و عليه ارتفع منسوب الفساد و صار الفاسدون بكل اعتداد و بكل فخر سندا لمنظومة سياسية بحاجة إلى دعم مالي واضح حتى تستمر.
بمعني آخر، لم تكن لدى هؤلاء أي نية لمحاربة الفساد. هذه “الحرب” بدأت مع يوسف الشاهد بشكل صوري و استمرت كذلك حتى 25 جويلية و لكن بشكل صوري أيضا.
سقطت ألاعيب العابثين بالدولة و الكاذبين على الشعب
الملاحظ في قائمة الشخصيات الملاحقة قضائيا و التي صدرت في شأنها أحكام قضائية باتة و نهائية، و من لا تزال على ذمة القضاء أنها تنتمي إلى أحزاب حكمت قبل 25 جويلية و من حزامها الداعم، ذاك الحزام الحرام، أي حرام التحالف معه، فسقطت حكومة لأجل عيون الفساد الذي بقي خارج القصبة و المقصود هنا هو حزب قلب تونس التي أصرّت النهضة على إدماجه في الحكومة غصبا تحت ذريعة توسيع الحزام السياسي و البحث عن توافق أوسع و أشمل، ثم سقطت ألاعيبهم، و لكن اللاعب الحزامي/الطّرفي، كان الإئتلاف الذي قام بدوره على أكمل وجه في حماية حتى ذوي الشبهات و هنا أشير إلى حادثة المطار و قبلها حادثة ميناء حلق الوادي و تسفير من يشملهم الإجراء الحدودي s17 و تكرر الأمر مع يمينة الزغلامي في مطار تونس قرطاج.
كان العبث بالدولة و قوانينها و أمنها و هيبتها ممنهجا و أمام أعين التونسيين و كان التسفير بقوة و سلطة النهضة و حزامها و كانت مؤسسات الدولة بمثابة التركة أو إرث “البيليك” قابلا للعبث به و التصرف فيه.
هذه هي علاقاتهم بمؤسسات الدولة : علاقات الهيمنة و التمكين و الغنيمة… و غيرهم هم رعايا لا مواطنين، تماما كعلاقات وزراء بايات القرنين 18 و 19 و حتى دولة ما بعد الاستقلال…
خلال العشرية السوداء تشبّع هؤلاء بين ليلة و ضحاها من كل مَناهِل الديمقراطية و مفاهيم الدولة و المؤسسات و حقوق الإنسان و مارسوا طقوسهم المعتادة في تخريب الدولة و تداولوا على عرشها حكومة بعد حكومة و وزارة بعد وزارة، و لم يكن في حسبانهم البناء الديمقراطي أبدا، لا مؤسسات دستورية و لا هيئات مكتملة… أين هي التركيبة الجديدة لهيئة الانتخابات؟ أين هي المحكمة الدستورية؟ أين هو المجلس الوطني الحوار الإجتماعي؟ كلها هيئات لو أنه وقع التفكير في بناء الدولة لكنا قد تفادينا عديد الأزمات السياسية و ما كنا وصلنا للحظة 25 جويلية، تلك اللحظة التي عملوا بشكل دؤوب على الوصول إليها فكان الخاسر الوحيد هو تونس…
يبكون كالنساء الثكالى على ضياع دولة لم يحافظوا عليها كالرجال
الآن هم يتباكون كالنساء و الثكالى على ضياع دولة لم يحافظوا عليها كالرجال… الآن هم دعاة إصلاح و بناء و قانونيين أكثر من القانون نفسه و حريصون على الدفاع بأسنانهم عن المسارات الدستورية… هؤلاء (و لا فائدة في تكرار أسمائهم) كانوا ربابنة يحركون دفة الدولة في اتجاه مصالحهم و ولاءاتهم و لوبياتهم، و كان لزاما أن تنتهي تلك العشرية السوداء حتى لو عاد بنا الزمن إلى عهد بن علي رحمه الله أو هكذا كان يردد بعض التونسيين (على الأقل كانت هناك دولة و هيبة)…
من الواضح جدا أن الرئيس قيس سعيد ضرب في عمق أوكارهم، فلا همّهم تركيز السلط أو فصلها، و لا همهم الضغوط التي تمارس على القضاء، هم فقط يحاولون عبثا البقاء تحت الأضواء و في الساحة بعدما لفظهم التونسيون و حجتهم هي الدفاع على الديمقراطية، و القانون، لطالما كانت “تستجديهم” منذ عشرية و لا أحد فكر في نجدتها أو إنصافها لأن التمكين كان يغلب التأسيس و البناء و الغنيمة و السلطة أولى و أبقى من دولة عمرها 3000 سنة.
هذا هو الإرث التاريخي الذي تناسوه، قبل، و هم يتباكون عليه اليوم لأن رئيسا أمسك بكل خيوط اللعبة، واستبعدهم، فقد كان بن علي يمسك بها كلها و ما كانت لحظة 17 ديسمبر ستكون، لو أنه قطع دابر الفساد وقتها…
ما يعاب على الرئيس ليس مسألة تجميع السلط، فالمسألة وقتية، و لكن ليس هناك ناطقا رسميا باسم الرئاسة يمكن أن يتواصل مع الإعلام و مع التونسيبن لتوضيح ليس خطوات الرئيس و برنامجه و ما ينوي فعله، و لكن تشريك الوطنيبن في بناء الدولة، و ترسيخ أسسها وهم كُثُر…
* محلل سياسي.
شارك رأيك