تنظم جمعية نشاز اقاءها النهائي لهذا العام تحت عنوان “2021: عام ولا كلّ الأعوام” و ذلك يوم 25 ديسمبر 2021 إنطلاقا من الساعة التاسعة والنصف صباحا بدارالكتب الوطنيّة بتونس العاصمة (قاعة المحاضرات “الطاهر الحداد”). نقدم أسفله الورقة العلمية لهذا اللقاء التي تحدد مفاصل النقاش.
منذ مدّة، لم تعد كلمة “الانتقال” واردة على الأفواه بعد أن كانت الشعار شبه السّحري لما بعد الثورة، والمختزِل لفكرة الطريق الأقصر بين الثورة والديمقراطيّة أو كما نقول في لهجتنا الدّارجة الحلوة “قَصَّه عَرْبي”.
ولعلّ الإشكال أنّنا لم نسأل أنفسنا يوما إن كنّا فعلا في حالة انتقال أم أنّنا لم نغادر، في الواقع، منطقة الزّوابع ما بعد الثورية؟ والأرجح
أنّنا لم نبرح الحالة الثانية وإن كنّا عشناها بطرق مختلفة: فالهزّات الاجتماعية هي في نظرنا علامات حيوية طالما أسهمت في تقوية مناعة المجتمع وتطوير قدراته في الدّفاع عن نفسه. أمّا الهزّات السياسية التي رافقت العشرية المنقضية فهي من طبيعة مغايرة إذ هي أقرب إلى سكرات الموت لجيل سياسي يشارف على نهايته، بعد أن قاد البلاد إلى مأزق ما وراءه مأزق.
وحتّى المحاولة الأخيرة للخروج من هذا المأزق لم تؤدّ إلى أكثر من دفع البلاد نحو مسار لا منفذ فيه هو الآخر. وكنّا تناولنا هذه المسألة في آخر لقاء لنا هذه السنة تحت عنوان: من هنا سِكّة ندامه ومن هنا سكّة ملامه.
صعود الشعبوية الثرثارة، والمتردّدة، والمخيفة
يبدو الأمر وكأنّ سنة 2021 قد أعادت، على نحو متسارع، إنتاج جميع الأصداء التي تردّدت على مدى السنين العشر الأخيرة، واختزلت جميع العواصف والتقلبات التي طبعت هذا الانتقال أو ما كنّا نعتقده انتقالا. فهي سنة شاهدنا فيها عُصارة كلّ ما جمعته الأعوام العشرة الفارطة، وجَنَيْنَا منها كلّ ما زرعته الطبقة السياسية من بذور التشوّه، فكان الحياد عن سكّة الدستور والمؤسّسات؛ ونهاية هيمنة الإسلام “السياسوي”؛ وصعود الشعبوية الثرثارة، والمتردّدة، والمخيفة في آن؛ وأخيرا شبح “حكم الفرد الواحد” الذي يحرّكه الحقد على “منظومة الأحزاب” دون تمييز بين الإسلاميين والعلمانيين؛ وبين السياسيين المفسدين والديمقراطيين؛ ومع اعتبار الجميع وجوها لنفس العملة وتصنيفها تحت يافطة النخبة “المتخيّلة” والتي هي نتيجة استيهامات رجل له يسعى إلى ثأر من “النّخب” أكثر منها توصيفا موضوعيا للواقع. ونعني هنا رئيس الدّولة الذي لعبت به نشوة التّمادي في إطالة استثناء قد يكون بصدد التّحوّل إلى قاعدة.
هذا المناخ رمى بثقله على جميع نشطاء المجتمع المدني الذين يمثّلون محور اهتمامنا بالدّرجة الأولى، لأنّه مناخ أدخل تشويشا على إمكانية إرساء نقاش ديمقراطي في البلاد لا يزال يبحث عن نفسه…
لقد عشنا في جمعية “نشاز” بكثير من الصعوبة العوائق النّاجمة عن جائحة كوفيد، لكننا نعترف أيضا أنّ الإجراءات الرئاسية قد شلّت إلى حدّ كبير حركتنا، شأننا في ذلك شأن الكثير من الأطراف الأخرى. كنّا في البداية في حالة ترقّب، قبل أن ننتقل، أمام شطحات الرّجل و”طلعاته” إلى الرّفض القاطع لكلّ نزوع إلى الاستفراد بالرأي الواحد الذي يسعى قيس سعيّد إلى فرضه على البلاد، سواء كان “انتقاليا” أو دائما.
وفيما يخصّ لقاءاتنا الحوارية النّابعة من مفهوم معيّن للنّقاش الديمقراطي، فقد سعينا في المدّة الأخيرة بعد تراجع الجائحة، إلى
استعادتها لما تمثّله من فرصة لتداول الكلمة الحرّة، وتبادل الآراء على المباشر ووجها لوجه. وهو ما يجرّنا بالمناسبة إلى وضع أكثر من نقطة استفهام على إجراءات رئيس الدّولة في علاقة بالاستفتاء الإلكتروني والاستشارات عبر الفضاءات الافتراضية التي لا تعدو أن تكون صيغا مغلّفة بغلاف التقنيات الحديثة، وبدعوى عدم الإقصاء، وتشريك كلّ الشعب، والخروج من دائرة القرار السياسي النّابع من داخل النّخب والأوساط المترفّهة دون غيرها، إلخ؛ ولكنّها قد تخفي في الواقع سيطرة على الإرادة الشعبية لما توفّره من إمكانية تلاعب بالنتائج، وتوجيه للرأي العامّ، فضلا عن تعذّر النّفاذ إلى الأنترنات لأعداد كبيرة من التونسيين.
التعتيم على الأمل الكبير الذي تولّد في 17ديسمبر/14 جانفي
أمّا عن دراساتنا الميدانية التي كانت مبرمجة لهذه السنة، فهي الأخرى تأثّرت بسياق الجائحة ممّا أجبرنا على التكيّف مع التضييقات والموانع التي فرضها الوضع.
مجمل هذه المسائل ستشكّل موضوع الحصّة الأولى التي يقدّم لها وينشّطها محمد الخنيسي، رئيس جمعية “نشاز”. في حين نخصّص الحصّة الثانية للوضع الرّاهن في البلاد.
إنّ المعنى الأوّل من 25 جويلية هو الكشف عن عجز الطبقة السياسية التي استحوذت على إرث النّظام القديم وسعت إلى التعتيم على الأمل الكبير الذي تولّد في 17ديسمبر/14 جانفي.
لطالما وقع الحديث عن التركيز المفرط على القانون مقابل تناسي المعطى الاجتماعي، أو بالأحرى طمس النزعة القانونية للمسألة الاجتماعية. لكن رجال القانون الأكثر جديّة قد أكّدوا جميعا أنّ قراءة الرئيس للفصل 80 من الدّستور وطريقة استعماله لا تعدو أن تكون اعتباطية في أفضل الأحوال.
أمّا عن المرسوم 117 بتاريخ 22 سبتمبر فهو قَلْبٌ رأسًا على عقب لهرميّة القواعد، واستهتارٌ غير مسبوقٌ في تاريخ القانون والسياسة التونسية.
لكن مع كلّ هذا، يجب ألاّ ننسى أنّ 25 جويلية لم يحدث في سماء صافية ووضع لا تشوبه شائبة.
فالحدث جاء لوضع حدّ لتحلّل وانهيار القائمين على “الانتقال” الذي زرع الكثير من الأوهام بعد أن وقفنا على ما آل إليه من مجلس نواّب شعب تحوّل إلى ركح عُرضت فيه علينا أتعس المسرحيات، وشاهدنا فيه رئيسا متمترسا وراء مكتبه، وحكومة تاركة المجتمع إلى مصيره في ذروة الجائحة.
مقابل هذا الإفلاس الواضح لجميع العيان، ما كان للوضع الاجتماعي سوى أن يُفضي إلى تحرّكات جانفي 2021 داخل الأحياء الشعبية للعاصمة حيث خرجت الأجيال الشابة لما بعد الثورة، أي الإخوة للصّغار لثوّار الأمس، ليجابهوا آلة القمع البوليسي والقضائي التي تشبه إلى حدّ يُعيد ماكينة بن علي، وكأنّ في الأمر استعادة (ولو بمقاس أقلّ ضخامة) لمشهد 17/14 سواء من حيث الطابع الشعبي للمتظاهرين أو من حيث عدم توقّع الأحداث.
إنّ تضافر هذين السياقين وتداخلهما هو الذي جعل 25 جويلية ممكنا بكلّ ما حمله من دفع للبلاد نحو مزالق غير متحكّم فيها، ووضعها أمام خيارين أحلاهما مرّ: فإمّا الرّجوع إلى ماضٍ لم يعد يُحتمل مطلقا أو مستقبل غامض ملؤه الشكوك والمخاطر.
هذا المأزق المزدوج سوف يحاول ماهر حنين تقديم قراءة سياسية له في محاولة لتفكيك آلياته، وقبل ذلك تقدّم لنا أميمة مهدي، التي ساهمت بقسط كبير في تحضير فعاليات مؤتمر الحركات الاجتماعية والمواطنية الأخير وإنجاحه، بسطة عن الوضع الاجتماعي في البلاد، ثمّ نستمع إلى أستاذ القانون المعروف والصّديق سليم اللّغماني في مداخلة حول الإشكالات القانونية والدّستورية التي أثيرت على مدى الفترة الأخيرة.
جليّ أنّ المسألة الاجتماعية، في جميع أبعادها، تمثّل الاهتمام والشّاغل الأوّل لجمعيتنا. ونعني بذلك البُعد السياسي بتقلّباته ولكن، وخاصّة، البعد الميداني الذي يتنزّل في قلب توجّهاتنا. وفي هذا الصّدد، أوكلنا إلى صديقنا، عماد المليتي، الباحث والأستاذ في علم الاجتماع، الإشراف على دراسة ميدانية تعنى بالوجوه أو المظاهر الجديدة للاّمساواة. وهي دراسة جاءت على موعد مع الزّمن التونسي.
وكما يقول عماد المليتي: “يتمثّل الأمر، خاصّة، في الإدراج ضمن مجال الرؤية لكلّ ما يسعى المجتمع الرّسمي الصّمت عنه والتعتيم عليه، ولجميع ما تعجز السياسات الاجتماعية للدّولة عن رؤيته بسبب عدم صلوحية شبكات القراءة المعتمدة. وبأكثر وضوح، يتعلّق الأمر، بالنسبة لأصناف من السكّان الذين يعانون من الشعور بأنّهم غير مرئيين، ويعيشون هذا الشعور في أغلب الأحيان كنوع من عدم الاعتراف المطلق، بجعلهم مرئيين. فدراسة المسارات المختلفة والمتنوّعة لهؤلاء الأشخاص المنتمين إلى هذه الفئات من السكّان يسمح بالوقوف على البعد السوسيولوجي المفارق الذي ينحو تارة نحو فرضية الهيمنة المطلقة؛ وطورا نحو المهارات الحاسمة والقدرات على التحرّر”.
في حصة ما بعد الظّهر هذه، نحيل الكلمة، إذن، إلى عماد المليتي وباحثيْن آخريْن من الفريق ذاته، هما كوثر غرايدية ومحمد سليم بن يوسف ليقدّموا لنا بسطة عن عملهم في تفاعل مع السياق السياسي والاجتماعي للبلاد.
شارك رأيك