الرئيسية » متى يعلم الله و التاريخ؟

متى يعلم الله و التاريخ؟

كيف يمكن للمؤقت أن يصير مؤبّدا؟ وما هي ضماناته؟ الإجابة تجدها بعد خمس عشرة دقيقة من مشاهدة عمل مسرحي أو الاستماع إلى قطعة موسيقية أو التمعّن في لوحة فنيّة أو قراءة نصّ شعري أو تخيّل مقطع روائي… فبقدر ما هي وقفات جادّة و اشكالية هي ردود تقييمية وتصنيفية تؤكّد لنا هل نحن متمرّدون على زمننا على وجه الخطأ  أم إنّ زمننا لا يعترف بنا؟ متى يعلم التاريخ أنّ كلّ إبداع أو ‘تفلّق’ ذهني هو ضرورة حياتية لا يجب أن تُواجَه بتهمة الإفراط في التفكير أو تجاوز حدود  السّماء؟

بقلم ميلاد خالدي

الله و التاريخ مفهومان مُجرّدان يختلفان في مستوى تصوّرنا لهما، لكنّهما يشتركان في كونهما مبثوثان في كلّ مكان و في كلّ زمان، صامتان و عازلان لكن يظلاّن يتشرّبان حماقاتنا و جهالاتنا المركّبة. متى يعلم الله و التاريخ أنّه كُلّما قصُر الزمن إلاّ و بلغنا ذؤابة أوهامنا و نهاية يقظتنا. وإنّ الضامن الوحيد لوجودنا هو أن نُجدّد أنفسنا على نحو مُختبري تحليلي.

متى يعلم الله؟

الله هو ثقافة جديدة للاستسهال عصيّة على  الذين نشأوا في بيئة عملية، مُداومة ومرنة، فالله بدوره غير مُتحزّب لكنّه حين تخدعنا الأنا بكوننا قادرين على أن نُشكّل حزب ‘ الوجبات السريعة ‘ و نُعدّ له برنامجا و أربعة أنفار يتبادلون الأدوار. ثُمّ يُرشّحون أحدهم ليتقلّد منصب الرئيس أو يعمل على سبر رأي الجمهور لينتهوا في نهاية المطاف إلى أنّ الأغلبية الصامتة لا يُعتدُ بها لأنّ الصوت هو ما كان مسموعا مُدويّا وليس ذلك الصوت المُتردّد المُحجِم.

متى يعلم الله أنّ خطاب الحاكم بأمره يستحقّ التأويل و لا يقتصر على الجانب الفنومولوجي للكلمة لأنّ الذات الإلهية بطبيعتها لا تتحمّل وزر خطاباتنا،  لا سيّما إذا استثنينا عملية تعاقد النيّة البراغماتي الذي يعود بنا إلى  مربّع ‘اعمل أو ارحل’؟ متى يعلم الله أنّ التضرّع له في أوقات الأزمات والجفاف دون العودة إلى ‘المختبر’ سيكون خطرا مُحدقا على البشرية جمعاء لأنّها سترتهن بوديعة الانتظار على أمل عُصارة من سحابة غابرة؟ صلاة الاستسقاء هي خطاب مزوّر نريده أن يمرّ رغم كلّ شيء، إلى القائمين على العناية الإلهية، فالأمر موكول بالأساس إلى لغة المختبر و ليس إلى حال القلب و اللسان. متى يعلم الخلق أنّ السّماء رسالة تُقرأ من الأسفل و ليس من الأعلى؟ غالبا ما يكون ذلك نتيجة لامتداد أنثروبولوجي لا غير كما يذهب في ذلك المفكّر  اللبناني بولس الخوري، بيد أنّ المهمّ في كلّ هذا هو أن نحافظ على مسافة لا تقلّ عن عقلين في كلّ ما يحكم حياتنا. فالماورائيات تحتاج بدورها إلى عقل وضعي أوجيستي بعد حداثي يُفعّلها ولا يُنظّر لها.

متى يعلم الله أنّه كلّ ما يُنسب للذكَر هو ثقافة مجتمعية بأسرها تُحرّك ردود الأفعال و الأفكار و السلوكيات، و ذِكرها على الملأ لا يجرح إتيقا مسمعي بقدر ما تجُرّني إلى القول أنّنا لا نفرّق بين الجسد كجسد فاعل في إطاره و جسد غير فاعل في علاقته بمنظومة ذكورية عمودية؟ الله لا يخجل من ذكر كلّ امتداد له باعتباره تواصلا مدروسا و ليس عفويا. أن نفكّر من منطلق أعضاءنا أو بدل عنها، لا يبتعد كثيرا عن فكرة أنّ السّماء ستُمطرنا خيرا فقط لأننا آمَنَّا بجزء على حساب جزء آخر، و بفكرة على حساب فكرة أخرى. لكنّ الأمر لا يهمّ كثيرا طالما عقدنا النيّة على أنّ الابتهال يسبق الفعل والدُعاء على حساب المُختبر.

متى يعلم التاريخ؟

متى يعلم التاريخ أنّ الديمقراطية التشاركية  هي الوجه الآخر الخفيّ لسياسة متى اجتمع اثنان على واحد إلاّ و وذهب في ظنّ الثاني أنّ الدولة أكرمته بنظام اجتماعي يحفظ ما تبقّى من وجوده المُتشظّي؟ فالتاريخ ليس كتلة جامدة من السردية الحدثية وإنّما نسق سببي يجعلنا ندرك أنّنا ذوات مُجرمة في حق تخلّفنا ورضانا. فدخول المُستعمر إلى تونس بإسم  الحماية والكوميسيون المالي في نهاية القرن التاسع عشر يتحمّل جزءا منه مواطن القرن الواحد و العشرين لاسيّما إذا اعتبرنا أنّ القابلية للاستعمار تترسّخ كُلّما وقع تبرير تلك الوقائع و الأحداث على أنّها مُسلّمات، فالتبرير هو في جُلّه فشل الذات أمام راهنية تاريخية.

متى يعلم التاريخ أنّ الإدارة هي أصدق أعداء المواطن و أنّ كلّ وثيقة إدارية هي إدانة خفيّة لمواطنته و حتى لجنسيته؟ هل نحن مطالبون  بأن نُمضي على أوراق مُحبّرة لا لشيء إلا أنّنا أردنا إثبات غير المُثبت و تعليل غير المُعلّل. الوثيقة هي الابنة غير الشرعية للتاريخ حاضرة بقوّة في أذهاننا و تعاملاتنا ومن يذهب مذهب الثقة في الوثيقة هو أنّ ما يربطُنا بهذا الوطن هو رابط واهٍ قابل للتمزّق في كلّ لحظة شرط تكرّر عملية التوثيق. متى يعلم التاريخ أنّنا نُبدع في القطع مع ما يسبقنا لأنّه لا يمثّل سقف طموحاتنا و لا حتى ‘نعلَ’ قناعاتنا؟ فهل التجرّؤ على القيام بعكس ذلك يُحيلنا بالضرورة إلى أنّنا مجبولون على خدمة الآخر دون قيد أو شرط؟

متى يعلم التاريخ أنّ ثقافة الاستسهال هي الثقافة القويّة للشعوذة، هي ثقافة الربح السريع دون أيّ ضمان أخلاقي أو اجتماعي؟ كيف يمكن للمؤقت أن يصير مؤبّدا؟ وما هي ضماناته؟ الإجابة تجدها بعد خمس عشرة دقيقة من مشاهدة عمل مسرحي أو الاستماع إلى قطعة موسيقية أو التمعّن في لوحة فنيّة أو قراءة نصّ شعري أو تخيّل مقطع روائي… فبقدر ما هي وقفات جادّة و اشكالية هي ردود تقييمية وتصنيفية تؤكّد لنا هل نحن متمرّدون على زمننا على وجه الخطأ  أم إنّ زمننا لا يعترف بنا؟ متى يعلم التاريخ أنّ كلّ إبداع أو ‘تفلّق’ ذهني هو ضرورة حياتية لا يجب أن تُواجَه بتهمة الإفراط في التفكير أو تجاوز حدود  السّماء؟

متى يعلم الله والتاريخ ثنائية لأرضية ليست بالخصبة، فالله كبّل لدينا سعة السؤال ليُتحفنا بإجابات تبلّد الحّواس، أمّا التاريخ فقد أسقطنا في خندق المهزلة والمأساة ليذكّرنا بأنّه لا جديد يُنقل. الله والتاريخ كيانان نائيان ومهترئان، نصدّرُ إليهما عثراتنا و نستورد منهما حبوب التخدير  والتسويف.

كاتب و مترجم.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.