حركة “مواطنون ضد الانقلاب” التي ظهرت مؤخرا في تونس في معارضة الرئيس قيس سعيد في ظاهرها وحدة ونضال من أجل ترسيخ الديمقراطية المزعومة وفي باطنها حرب شرسة سيظهر سُعارها بعد أن تتمكن من الحصول على الغنيمة -إن حصلت عليها بالفعل- وإذا لم تحصل إلا على الفتات فستقوم الحرب بين مكوناتها وتبدأ معركة جديدة ويتغير نمط الأعداء والأصدقاء وتظهر مفاجآت أخرى.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد *
فرح التونسيون كثيرا عندما قرر السيد قيس سعيد التدخل سريعا لإجراء جراحة عاجلة على الحالة السياسية في تونس التي تأزمت كثيرا بفعل تعثر الأحزاب السياسية وتكالبها على تشكيل الحكومة تلو الحكومة وتناحرها تحت قبة البرلمان الذي شهد معارك طيلة فترته النيابية وصخبا كبيرا تعطلت على إثره التجربة الديمقراطية التي بدأت مع سقوط نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وظلت العملية السياسية تترنّح وتتعثّر بين الفينة والأخرى مع فترة هدوء واستقرار في عهد الباجي القايد السبسي الذي توافقت حوله النظم والأحزاب السياسية نسبيا مع بعض الخلافات الايديولوجية والأمنية، وتعقدت وزادت تعقيدا بعد انتخاب الرئيس قيس سعيد، وتحديدا إثر الخلاف الحاد بينه وبين الشيخ راشد الغنوشي حول من يدير الحكومة وأساليب الحكم في البلاد وغيرها من الموضوعات.
الأمل في سياسة مختلفة تخرج البلاد من أزمتها
وترجم التونسيون هذا الفرح بخروجهم للشوارع لأن قرارات رئيس الجمهورية الاستثنائية في 25 يوليو الماضي أنهت حالة من الخوف والإرباك عند عموم التونسيين وبدا الأمر وكأنه عهد جديد يتسم بالانقطاع مع الماضي الأليم والعمل على إنشاء سياسة مختلفة تخرج البلاد من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الصحية.
لكن الذي حدث أن تباطأ رئيس الجمهورية في تحديد الخطوط العريضة لخطته المستقبلية في الفترة الاستثنائية مما أكسب خصومه مزيدا من الوقت للتعبير عن حالة الاستياء الشديدة التي بدت عليها تونس في هذه الفترة، فقد كانوا يجهزون الخطط الواحدة تلو الأخرى لإفساد ما كان ينوي القيام به، وعمدوا إلى تجييش وتهييج الشعب التونسي بتوجهاته كافة للحصول على مآرب سياسية مؤقتة تخول لهم الرجوع إلى نقطة الصفر.
والكل كان يعتقد أن حالة البلاد ستتحسن خلال الفترات المقبلة، إذا توفرت العزيمة والإرادة للتغيير نحو الأفضل، لكن العراقيل التي بدت كانت كافية لأن تغير بوصلة العمل لدى رئاسة الجمهورية نحو التأخر والتردد والضبابية في إرساء القواعد السياسية، وكان الاعتقاد أيضا ساريا أن رئيس الجمهورية سيتصل بالأحزاب الفاعلة والمنظمات المؤثرة في المجتمع والشخصيات السياسية التي يُسمع صوتها للتأثير على الشعب بكافة أطيافه غير أن الذي حدث أن الرئيس قام بكل ذلك وحده حتى لا يشرك في نظره من يحاول أن يرجع الأمور إلى مربّعها الأول لكنه في الوقت نفسه بقي في مكانه ولم يتقدم إلا قليلا في وقت كان التونسيون ينتظرون أن تسير الأمور بسرعة أكبر.
الضبابية الاقتصادية والاحتقان الاجتماعي
وفي ظل هذا التموقع السياسي والضباب الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي وعدم وجود ما يحرك دواليب الاقتصاد على الأرض، أو يرجع للتونسيين ثقتهم بالدولة ولو كان في ذلك بصيص من الأمل نحو الانفتاح والسير بعجلة الاقتصاد واتخاذ القرارات المناسبة التي تكون في صالح الشعب، استغلت فئة من التونسيين الوضع المتدهور لتكريس شعبويتها القائمة على تكفير مؤسسة الرئاسة سياسيا – إن صح التعبير– والعمل على مقاومتها بكل السبل وإضفاء صبغة جديدة على عملها لجعلها مؤسسة منبوذة عند الشعب، ولعل “حركة مواطنون ضد الانقلاب” هي من تمثل هذا التوجه الغريب في البلاد، حيث ضمت في صفوفها الشخصيات المتناقضة التي كانت تسب بعضها البعض في وقت ما، فجوهر مبارك الناشط السياسي المعروف يغير مواقفه فجأة ولا يبالي بما يفعله، كان يوما ما يسبّ حركة النهضة وينتقدها ويحملها المسؤولية واليوم يدافع عنها بشراسة وأعتقد أن غدا سيسبها من جديد إن هي حرمته من منصب رفيع أو صدمته بموقف جديد أو أدارت له ظهرها، وهو ما يفعله السيد المنصف المرزوقي الذي كان يوما الرجل المفضل عند حركة النهضة، فانقلبت عليه فجأة، وأخرجته من مسارها الانتخابي ليجد نفسه خارج الحلبة ويسبها ويعتزل على إثرها السياسة.
وهكذا هي هذه الحركة، إنما تضم شخصيات متناقضة لا تربطها علاقات ولا إيديولوجيات سياسية، تبحث عن المناصب والمصالح وتلهث وراء الإعلام لتبرير مواقفها، فمثلها كمثل قصعة تكالب عليها آكلوها وكل واحد منهم يريد القطعة الكبرى حتى يحصل عليها، هي حركة في ظاهرها وحدة ونضال من أجل ترسيخ الديمقراطية المزعومة وفي باطنها حرب شرسة سيظهر سُعارها بعد أن تتمكن من الحصول على الغنيمة -إن حصلت عليها بالفعل- وإذا لم تحصل إلا على الفتات فستقوم الحرب بين مكوناتها وتبدأ معركة جديدة ويتغير نمط الأعداء والأصدقاء وتظهر مفاجآت أخرى.
ما تقوم به هذه الحركة أو المبادرة هو خروج عن مسار الديمقراطية، لأن الصدق يجانبها، والنفاق بادٍ على أطرافها، تتمدّد حينما تجد من يزيّن ويزركش عملها ويظهر روادها في الإعلام حينما يهتم بعض منها لتزييف الحقيقة، وتتقلص وتندثر عندما تجد نفسها أنها تعمل في سراب، وتركض وراء أوهام، تحسبها حقائق ومسلمات فإذا هي تصطدم بجدار جملة من القرارات التي ينتظرها الشعب التونسي بكل فئاته، فما نحتاجه اليوم ليس حركة مواطنون ضد الانقلاب، لأنها حركة منتهية ومندثرة لا تقوى على الصمود، وإنما الذي نحتاجه اليوم هو توافق الشعب والانطلاق نحو التغيير والعمل الدؤوب والمتواصل من أجل تحقيق الحلم، ومطالبة رئاسة الجمهورية بالانفتاح على الأحزاب السياسية والمنظمات الفاعلة لتحقيق التوازن وإجهاض ما كانت تنوي فعله هذه الحركة الخطيرة فهي أشبه بحركة ماسونية تسعى للتخريب أكثر منه للإنقاذ.
* محلل سياسي.
شارك رأيك