أطلق الكاتب والصّحفيّ الشّاب محمد الخزامي روايته الأولى بعنوان “قطاف الخريف” الّتي أصدرها مؤخرًا عن دار أبجديات للنشر والتوزيع، ليفاجئنا بقطاف لم يكن متوقعًا بالنظر إلى سن الكاتب الشَّاب الذي قال إنّه قد كتب العمل على مدى 3 سنوات وأكثر، ليصقله خلال فترة الحجر العالمي الأول مفكر بعدها جديا في إطلاقه.
بقلم أنيس الصمعي
الرّواية الأولى هي مُغامرة شرسة يخوضها الروائيّ، لا سيما إذا كان هذا الروائيّ شابًا ومطلِقًا لعمله الأوّل. العمل الأول يعني كتابة مع سبق الجُنون وسبق التحدّي وهي نتاجٌ لــ”قطافٍ ضخم” ثمّن تجربته في الحياة إلى حدّ العمر الذي وصل إليه، الرواية هي تعبيره الخطير والاستباقيّ والجريء و”الأنا” الّتي خزّنتْ حتّى وقت طويل كلّ صمتها لتفّجره دفعةً واحدة.
على ضوء ذلك، أطلق الكاتب والصّحفيّ الشّاب محمد الخزامي روايته الأولى بعنوان “قطاف الخريف” الّتي أصدرها مؤخرًا عن دار أبجديات للنشر والتوزيع، ليفاجئنا بقطاف لم يكن متوقعًا بالنظر إلى سن الكاتب الشَّاب الذي قال إنّه قد كتب العمل على مدى 3 سنوات وأكثر، ليصقله خلال فترة الحجر العالمي الأول مفكر بعدها جديا في إطلاقه. و رغم أنّنا لا نقيّم الإنتاجات الأدبية والموهبة بصغر السن، لا بد أن نعترف بأن لهذا الروائي الشاب زخمٌ حبري يجعله قادرًا على التعبير بلغةٍ جميلة والانتقال بين الأحداث والفصول بخفة أسلوب متين يشبه الكبار، وبنفَسٍ طويل دون أن يسقط في فخاخ الملل أو الممطالة أو الركاكة التعبيرية، وهو ما نفتقده في أقلام شبابيّة اليوم نادرًا ما نجدها قادرة على التعبير بلغة عربية فصيحة وأنيقة، وفي زمن ينحدر إلى الرداءة الأدبية كما نرى ساحتنا الثقافية اليوم.
“قطاف الخريف” عنوان شدّني كثيرا وكان لافتًا جدًا ولا سيما أنّه جاء تحت شعار “هل للخريف قطاف”؟ وذلك في اللافتة الإعلانية للرواية. كما لو أن محمد الخزامي يتعمّد استفزاز استغرابي ويجعلني أتساءل بحقّ : هل للخريف قطاف؟ وهل في هذه الرواية لغم ضوئي جذاب؟ هل هي لعبة من ألعاب الورق كما يقول داخل فصولها، أم هي عمليّة تجميلية للخريف الذي بئسنا منه ؟ تدريجيا يكشف العنوان عن تصدع هائل يؤكد ذكاء الروائي في اقتناص هذا العنوان بالذات الذي يجمع تناقضا مدروسًا يتخطى البعد الشاعريّ الذي يوحي به كلحظة سيميائيّة أولى وكعتبة أولى.
رواية رمزية من خريف ظاهريّ إلى باطن خريفيّ
يتضح وأنت تقرأ الرواية أنك قد صرت أمام رواية رمزية تدخل بك من الخريف الجميل الظاهريّ إلى باطن خريفيّ مرتبط بخريف أحلامنا العربية وخريفنا العربيّ الذي تمتد ظلاله حتى القضيّة الفلسطينية التي عولجت بالنفاذ إليها من مسألة حساسة ونافذة مهمة، وهي مواكبة الإعلام لها وكيفية نقل الحقائق وصولًا إلى الصراعات العربية والإرهاب والأنظمة العربية ووضعية المثقف من كل ذلك، وهو بين موجات كثيرة كالاغتيال والتهجير والتهميش والاغتراب، ومحاولة فرض قيود جديدة عليه وعلى مجتمعه، وكذلك نجد صراع الصحافة الحرة مع الصحافة الصفراء وبين أولئك الذين يقفون في الحياد. في قصة الرواية نجد أنفسنا إزاء مذيعةٍ تمثل الإعلام العربي وكاتب يمثل الفنان والمثقف المتفاعل مع اليوميّ ومستجداته بما فيه ارتباطه بالإعلام نفسه وهو ما يجعل هذه الثنائيّة في هذه الرواية من أنجح الثنائيات التي جمعتْ في الثنائيات الروائية، فهي ليست مجرد قصة حب ولم يتم انتقاء الأبطال بعفوية بل بخلفيات مثلوها وقدمها كل بطل من زاويته بل وحتى في طريقة اختيار أسمائهم.
أدهشني محافظة الرواية على لغة جميلة ومليئة ببعد نظر تحليلي يرضي غريزة القارئ الذكيّ ويشبع فضول القارئ النهم في الآن، الباحث عن العبارات والاقتباسات الجميلة حتى الصفحة الأخيرة، وتدل على فهم الكاتب للأحداث العربية ومشاغلها الكبرى اليوم وفهمه لبعض الرؤى الحياتيّة والعاطفية.
قوة الرواية تكمن في أنّها مليئة بالإشارات الرمزية وبأنها لا تقف عند توثيق زمن واحد كما يبدو، ولهذا السبب أخفى الكاتب الزمن الحقيقي الذي جرت فيه الأحداث التي استهلها بـ “أكتوبر- تشرين الأول 20..” ليخفي السنة أو السنوات الحقيقية للأحداث وهو ما يجعل منها مطابقة وخالدة لتعبر حتى عن المستقبل القادم، كما أن أحداثها لا تطابق وضع وطن عربي واحد بل نجد أوضاع الوطن العربي كله مجتمعة في وطن واحد بطريقة ما، كالعراق وسوريا، وذلك من خلال أسلوب التلميح المعتمد.
يقول الكاتب في روايته: “كأنَّ الحبّ يُجمّل المُدن المنهوبة المدمّرة. فخرابُ أماكنها المهدّمة سيعطيك مكانًا سريًا لاختلاس موعد بين بقايا جُدرانه مع امرأة” وعندما تقوم بإسقاط تحليلي على هذا الاقتباس تعتقد في البدء أن البطلان يعيشان داخل مدينة مهدمة وتحت الحرب ليواصل مستدركًا : “لكنّنا ما كنّا في مدينة مدمرة إلى هذا الحد… فقط جدران القلب هي التي هُدّمت” وحينها تكتشف أنها إشارة معبرة عن وضع أوطان عربية كثيرة تحت الحرب.
رواية تجرحك بفظاعة المشهد العربي
وكان هذا الأسلوب طاغيًا في الرواية المحملة بتفاصيل تخلق متعة للقارئ وهي ليست مع ذلك تقليلا من ذكائه بل محاولة من الروائي ليجعل القارئ يجاريه ويلاحقه ويفك وراءه كل تلك الشيفرات والرموز التي يتركها له وربما لهذا السبب قال داخل روايته إنها ليست سوى لعبة من ألعاب الورق.
الجميل أيضا في “قطاف الخريف” أنها ترحل بك إلى أقصى المواضيع المؤلمة دون أن تجرحك بفظاعة المشهد العربي المأساوي ودمائه، وتجعلك تكتشف الحقائق التي وصل إليها الروائيّ دون أن يكون قد ملأ خيالك بأحداث صاخبة جدًا، فأحيانا يكفي لحدث واحد أن يكون فضاء استنتاجات لكثير من القضايا، وهي أشبه إلى حوار يدفع بالقارئ إلى الثورة والوعي بعالمه أكثر ويتعرف إلى صورته داخل الإعلام وخارجه بعينيه وبعين الكاميرات وبعين المشاهد الآخر في القارات الأخرى، والإسقاطات في هذه الرواية لا حد لها سواء على المنهج الاجتماعي أو النفسيّ مثلًا، فهي تحمل الكثير بعد، وبما أنها ناقشت الواقع الإعلامي فهي ستظل تتطور معه كل مرة لتقدم إلى القارئ إسقاطات جديدة.
“قطاف الخريف” من الروايات القليلة التي تطرقت إلى واقعنا العربي بعمق بكل جرأة ومن زاوية لم تطرح في السنوات الأخيرة، أي من الزاوية الإعلامية، وهي بمثابة إعلان الحرب على رداءة الإعلام وتحميله المسؤولية في جزء كبير حول ما يحدث لنا من نزاعات واقتتالات واغتراب وتهميش للنخب المثقفة وغير ذلك من القضايا التي يحورها الإعلام ويخلق منها نشرات وأخبار وبرامج مثرثرة لم تعد تقدم حلولًا بل تدفع بالشعوب إلى صراعات جديدة.
يبقى أن نشير إلى مدى نضج الروائي الشاب الذي طرح هذا العمل بكلّ هذه القوّة الإبداعية في التحليل والوصف وصياغة المشهديات التي تفيض بها مقولات الواقع ونجاجه في كيفية دمجها داخل قصة خيالية يمكن أن تتجسد في عمل سينمائي لاحقا.
شارك رأيك