لا شك أن القضاء في تونس مريض يشكو من خور واضح على مستوى التنظيم و المراقبة و ضمان الأمن و استشراء الفساد و وجود حالات كثيرة من اختفاء الملفات و الوثائق لم يتم التوصل في غالب الأحيان للفاعلين مما يؤكد وجود حالة تعتيم مقصودة و قلة رقابة و محاسبة من وزارة الإشراف… و لكن هل يكفي التنديد بذلك كما يفعل الرئيس قيس سعيد ؟
بقلم أحمد الحباسى *
“قضاء عادل خير من ألف دستور”، هذا ما يقوله الرئيس قيس سعيد لكن المتابعين يتفوهون بأن ما يقوله الرجل هو شعار آخر من كم الشعارات التي يطلقها صباحا مساء و يوم الأحد بدون طائل. طبعا لا يتطلب أمر اكتشاف ظروف العمل السيئة داخل المحاكم جهدا كبير لأن مجرد إطلالة مباشرة على أغلب بنايات المحاكم تعطى الجواب فأغلبها متصدعة و متآكلة و لا توفر الحد الأدنى من الراحة للهيكل القضائي بسبب غياب أو لنقل انعدام الترميم منذ سنوات. و إذا سلمنا بقدم أغلب البنايات فلا بدّ من القول أنه و مثلما هناك خور واضح على مستوى الهيكل فإن هناك خور أوضح على مستوى التنظيم و المراقبة و ضمان الأمن و استشراء الفساد و وجود حالات كثيرة من اختفاء الملفات و الوثائق لم يتم التوصل في غالب الأحيان للفاعلين مما يؤكد وجود حالة تعتيم مقصودة و قلة رقابة و محاسبة من وزارة الإشراف.
ماذا تعني حالات الخلع و السرقة… داخل المحاكم ؟
منذ يومين تقريبا تعرضت بعض مكاتب المحكمة الابتدائية بتونس للخلع من طرف مجهولين و تم فتح بحث في الموضوع لكن المثير في الحكاية أنه لا أحد بإمكانه أن يعلم في ظل التعتيم المشبوه الذي فرضته وزيرة العدل عن أي من المكاتب المخلوعة نتحدث و ما هي نوعية الوثائق أو الملفات أو المحجوز الذي تمت سرقته و أين كانت الحراسة و كاميرات المراقبة و من هي الجهة التي سعت للحصول على هذه المسروقات المهمة و ماذا عن توقيت عملية السرقة التي يسعى بعض الملاحظين إلى ربطها بفتح التحقيق في شبهة اغتيال الرئيس الراحل محمد الباجى قائد السبسى.
ما حدث في أروقة المحكمة الابتدائية بتونس لم يكن حدثا معزولا لأن هذه المحكمة قد شهدت فى السابق عدة عمليات سرقة و لعل أهمها سرقة المحجوز المتعلق بحاسوب و أسطوانات الإرهابي أحمد الرويسى و ما ثبت من سرقة وثائق تتعلق بملفات الإرهاب من طرف كاتب المحكمة و النائب المجمد بائتلاف الكرامة المدعو ماهر زيد و التي ترتب عنها صدور حكم نهائي ضده بالسجن لمدة أربع سنوات.
لم يتبقّ في مرفق العدالة و القضاء ما يدلّ فعلا على وجود الدولة بعد أن عمّ الفساد في القضاء بحيث طالت الشبهات أغلبية القضاة و أحاط الفساد بجميع مفاصل القضاء بعد أن قامت الحكومات المتعاقبة باستخدام و تطويع هذا المرفق لأغراضها الخاصة و لخدمة كبار الفاسدين و لعل “مجزرة” القضاة المعزولين التي طالت أكثر من ثمانين قاضيا و التي ارتكبها وزير العادل السابق نورالدين البحيرى تعدّ أحد الشواهد المهمة و المعبّرة عن قمة التدني الأخلاقي و السياسي لحركة الإخوان.
استقلال القضاء شعار بائس يرفعه اللئام من السياسيين
آخر فضائح قضاء التعليمات هو ملف الرئيس الأول لمحكمة التعقيب الطيب راشد الذي تم الكشف فيه عن تجاوزات مرعبة ثم ملف الوكيل العام للجمهورية البشير العكرمي الذي كلفته حركة النهضة بالتعتيم على كل ملفات الإرهاب و بالذات التعامل المشبوه مع إفرازات التحقيق في اغتيال الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمى.
إن استقلال القضاء مجرد شعار بائس يرفعه اللئام من السياسيين و المتملقين و باعة الكلام و حتى الذين ينازعون بأن أهمية استقلال القضاء تجد دليلا في تضمينها بالدستور يعلمون أن هذا القضاء قد أصبح مجرد سلطة ديكور تتحكم فيه المآرب و النزوات و حين يتجرأ البعض على خلع مكاتب المحكمة بعد أن تجرأ البعض مثل النائب المجمد المحامى سيف الدين مخلوف على رموز القضاء علنا و بدون حمرة خجل فمن الثابت أن هذا المرفق الحيوي الذي يمثل عماد الديمقراطية و حقوق الإنسان في البلدان المتقدمة قد هان و اعتدى عليه كل مفلس.
إن خلع مكاتب المحكمة الابتدائية بتونس قد سبقته عملية مماثلة بمحكمة الاستئناف بتونس لا تزال قيد التحقيق رغم ما تم صرفه من مبالغ مالية ضخمة لتجهيز مقرها بكاميرات مراقبة في كل الطوابق و لعل تواصل عمليات الخلع و السرقة دليل على أن المتضررين من “انقلاب” 25 جويلية و من إيقاف البشير العكرمي و الطيب راشد قد بدؤوا يشعرون بالخوف من إمكانية الكشف عن بعض الملفات الساخنة و التي بإمكانها أن تفتح أمامهم أبواب المحاسبة و السجون.
إلى متى سيظل بعض القضاة الشرفاء صامتين؟
هل بات المرفق القضائي مهددا و هل سيتواصل إجرام السياسيين و المهربين و هل ستصبح مكاتب القضاء مرتعا للصوص الملفات و هل فقدت الدولة السيطرة على مرافقها الحيوية و من يقف وراء التعتيم على مآل الأبحاث و إلى متى سيظل بعض القضاة الشرفاء صامتين؟
متى ستفتح ملفات القضاة الفاسدين و متى ستقوم الحكومة بدورها في تحسين البنية التحتية؟ لقد فقد القضاء هيبته نتيجة منظومة الفساد المفخخة داخله و ستستمر الكارثة إلى سنوات أخرى نظرا لغياب الإرادة لدى القضاة لتطهير السلك تطهيرا جديا بل أكاد أجزم يقينا أن دخول السياسة و نزوات السياسة إلى القضاء قد جعل أغلب القضاة يبحثون عن الوجاهة و الشهرة في المنابر الإعلامية بدل الاهتمام بالبت في آلاف القضايا المعلقة.
لقد زاد الصراع السياسي على السلطة في أزمة القضاء و بات التلويح بالملفات أمرا عاديا و لذلك تحدث عمليات سرقة الوثائق التي يمكن استعمالها للإطاحة بالخصوم السياسيين و مزيد توتير الأجواء خدمة لأغراض أنانية انتهازية تتعلق بكرسي السلطة.
* كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك