في صبيحة يوم 14 جانفى 2011 استفاقت الجموع الغفيرة لتجد نفسها متجهة صوب شارع الرمز، قبالة بناية الرمز، لإسقاط الرمز (نظام الدكتاتور بن علي في تونس)… وفي يوم 22 سبتمبر 2021 وقع الإجهاز على ما تبقّى من حالة “الشياع الثورجي” التي سادت طيلة 10 سنوات من الفوضى و الضياع… و بجرّة فرمان حامل لختم حاكم تونس الجديد قيس سعيد…
بقلم محجوب لطفى بلهادي *
قد لا نأتي بجديد تحت الشمس عندما نعيد اجترار المفاهيم النمطية للثورة الواحدة تلو الأخرى على غرار أنّها لحظة من لحظات التاريخ الفارقة التي قد لا تتكرّر، تٌعبّر عنها خطوط التّنافر بين القديم والجديد، تقود أشرعتها نخب منظّمة في مواجهة تيارات معادية لكل تغيير، تٌحسم مآلاتها موازين القوى بين جديد غضّ فى طور التشكّل وقديم ممانع غير مستعد للرّحيل…
لكن الجديد المستجدّ فى الحالة التونسية ان تنتقل حركة احتجاج الهوامش على المركز (17 ديسمبر 2010) إلى شكل من أشكال “الشّياع الثورجي” التي يتنازع على ملكية حصصها عدد من “المالكيين” و”منتحلي الصفة”، فيزعم المثقف انه ملهمها، ويٌقسم النقابى القاعدي والعاطل عن العمل انه وقودها، ويأتي السياسي لقطف ثمارها…
1- فى سوسيولوجيا منعطف 14 جانفى 2011 المٌزلزل !
بمخرجات سلوكية في غاية التعقيد والتفرّد تشكّلت ملامح شخصية تونسية سلوكية وألسنية جماعية- لم يعهدها تاريخ الثورات من قبل، شخصية غمرت الساحات والأنهج والبوّابات الافتراضية، نزلت صبيحة يوم 14 جانفى 2011 للحسم دون مراسم تأبين لنظام سياسي ترهل من الداخل، نطقت بلغة “حرق الجسد” وأدوات التخاطب الافتراضي الجديدة، وقودها ألسنة لهب النيران وكلمة سرّ أطلقتها حنجرة جمعية واحدة بصوت عال “إرحل” اتحد فيها البناء اللفظي المنطوق “بلغة الإشارة” في سابقة ألسنية نادرة، كلّها عزم على تطهير المسرح من مدنسات الماضي، أبطالها “المرئيين” و”اللامرئيين” طلائع من الشباب المٌهمّش، ومن تشكيلات مهنية قطاعية متعددة، ومن عسكريين محايدين وأمنيين مهرسلين وإداريين لم يغادروا مواقع عملهم للحفاظ على ديمومة الدولة تنضاف إليهم جوقة من مقاولي السياسية والمتطفلين والمهرّجين…
جميعهم أنجزوا دون أن يدروا جيلا جديدا من الثورات، “براديغم” مستحدث يٌغازل القديم في حدود ما يقدّمه للجديد محوّلا المعركة بين القديم والجديد من طور المواجهة إلى طور التزامل النفعى (symbiose)، لم يقع فى فخاخ وهم الأيدولوجيا والتمثّلات العقائدية والزعامتية الزائفة، يقوده عقل جمعي فٌصامي يٌراوح بين التناسق والبناء الفوضوي، تورّط دون أن يدرى فى إيجاد حالة من الشياع المستعصية حول من يملك لحظة 14 جانفى 2011.
فإن تم ضبط حلّ إشكاليات حالة “الشّياع” أو “الشّيوع” فى المادة العقارية بالتراضي او بالتقاضى بين مختلف مالكى الحصص فإن حالة “الشياع” فى ممارسة السلطة التى شهدتها البلاد منذ 2011 إلى حدود 22 سبتمبر 2021 لا تشذّ كثيرا عن قواعد التى جاءت بها مجلة الحقوق العينية، فمختلف الطّوائف المهنية والجماعات العقائدية والسياسية المغلقة والمؤسسات الدستورية والاعلامية التقليدية والبديلة وغيرها من مراكز النفوذ اتفقت فيما بينها منذ اللحظة الأولى على تحويل حصصها إلى جزر وكانتونات منفصلة بعضها عن البعض، فأمسى من المألوف والمتداول الحديث دون حرج عن دويلات “قرطاج” و”القصبة” و”باردو” وساحة “محمد على” إلخ.
2- فى سيكولوجيا 14 جانفى 2011 المزلزل !
عندما أسهب “فرويد” في تشخيص “حالة العصاب” (névrose) من خلال استنطاق العقل الباطن، وشرع غوستاف لوبون فى وضع الأسس الأولى لنظرية سيكولوجية الحشد اعتمادا على نفس البديهية “محورية اللاشعور”، لم يدر في خلدهما إطلاقا أن أركان معبد “اللاشعور” الذي حولاه إلى “طوطم شعائرى” قد يهتز يوما من الأيام تحت أقدام أحفاد يوغرطة و عليسة وغيرهما في حركة جماعية راوحت بين الهستيريا والإبداع…
فخلافا للمسلّمات الفرويدية التي تشدّد بأنّ الكشف عن السلوكيات البشرية الفردية أو الجماعية المتناهية في التنوّع والتعقيد لا يتم إلاّ عبر فكّ الارتباط المقدس الثلاثي الأبعاد بين “الهو” “والأنا” “والأنا الأعلى” من خلال النجاح في عملية استدراج “الهو” إلى السطح، جاءت الحالة التونسية لتستحدث بعدين مختلفين عن البنية اللاواعية لفرويد بعد أن أقصت “الأنا” نهائيا من حلبة الصراع لتختزل النزال المجتمعي الواعي بين “ذات جمعية ساذجة محبة للحياة” و”ذات سلطوية فئوية في طور إعادة التموقع”…
في صبيحة يوم 14 جانفى 2011 استفاقت الجموع الغفيرة لتجد نفسها متجهة صوب شارع الرمز، قبالة بناية الرمز، لإسقاط الرمز…
وفي يوم 23 أكتوبر 2011 انطلقت نفس الجموع وبنفس الحسّ الجمعي صوب مكاتب الاقتراع في حٌجّة الوداع مع “العصاب” علّها تعثر عن ملائكة الرحمة…
نفس الجموع أو تكاد تدفقت في شكل سيول بشرية غير مسبوقة بعد أول اغتيال سياسي يوم 6 فيفرى 2012 لرفض مملكة الملائكة والشياطين…
بالنتيجة جاء يوم 22 سبتمبر 2021 للإجهاز على ما تبقّى من حالة الشياع بجرّة فرمان حامل لختم حاكم تونس الجديد !
* متخصص فى التفكير الاستراتيجي.
شارك رأيك