منذ 2011 وإلى اليوم يطرح كثير من المهتمين بالشأن السياسي والإعلامي السؤال التالي: إذا كان دور وسائل الإعلام تقديم الأخبار والمعلومات، وفي مستوى آخر نشر الوعي والمعرفة وتعميق الانتماء، فكيف نمارس الحرية المكتسبة وفي إطار القانون على هذا المستوى؟ وكيف نَضمن أنّ الساحة الإعلامية تتوفّر فيها القدرات المتمتّعة بالتأهيل العلمي المختص والمهنية المطلوبة.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
زمن قوة تأثير الاعلام
يبدو أنّ إثارة هذا الموضوع في هذا الظرف بالذات تفرضه مقتضيات المرحلة الحالية وتحدّياتها. لا يمكن أن تستقيم العملية المتبادلة بين الوعي والواقع الاجتماعي الذي يسبق عملية التغيير ويرافقها، ولا يرتفع مستوى الشعب بمضامين لا تحضى بالرضا الشعبي. نحن نعيش زمن قوة تأثير الإعلام في إدارة حياة الشعوب وخلق مُعاناتها أو سعادتها.
يُقال أنّ السياسة نجحت سابقا في توجيه دفّة الإعلام نحو أهدافها المرسومة رغم تناقض أعمالها وأقوالها، واليوم بعد 2011 أين تكمن الحقيقة؟ في الخطاب المعسول أو الخطاب المتشنّج أو الخطاب المتدنّي. ليس سهلا أن ندّعي تحمّل مسؤولية الإعلام فهو القوة الأكثر تأثيرا في مسار حياة الشعوب واتجاهاتها وقيمها، ويعمل بنفس قوة السلاح. والفرصة للتقييم ما يجري لدينا مُتاحة عبر تغيير القناة والاتجاه لمحطات عربية حديثة مثلا والوقوف على الفارق في مستوى الحضور، وآداب الحوار، والتمكّن من اللغة، وسعة الثقافة، والقامات الفكرية والعلمية المتحاور معها.
الكل يتطلع إلى إعلام أصبح من ضرورات الحياة المعاصرة.. إعلام يتم استغلاله في الدفاع عن الرأي والمعتقد وقضايا الشأن العام بكل موضوعية، وبتخلّف هذه الأداة تتشوه كثير من الحقائق وربما تتحول إلى صورة أخرى غير الصورة الحقيقية. إنّ الرسالة التي تحملها وسائل الإعلام اليوم عبر قنواتها المتعدّدة والمختلفة الاتجاهات تتضمن أبعادًا غير محسوسة وغير مباشرة ولا يمكن تجاهلها.
إنّ حقيقة الإعلام هي خضوعها على المستوى الدولي لسياسات دول أو شركات تتلقى تمويلها من مؤسسات مختصة وبالتالي يتم توجيهها نحو سياسات مُعيّنة تستهدف المجتمع والمؤسسات الاجتماعية والدول. وهي عموما غير محايدة أو موضوعية إطلاقا، وإن ادعت بشكلها الظاهري هذا الادعاء، فإنها في الحقيقة على العكس مما تدّعي تماما، فالنقد المُوجّه للأشخاص والمؤسسات والسياسات، واستهداف أية قضية وتضليلها إنما المقصود من ذلك بُعدًا استراتيجيا في السياسة لصالح قوى أجنبية.
حرية التعبير واحترام الخطوط الحمراء
إنّ الدرس المستفاد من تجربتنا ومن التجرية الدولية المذكورة آنفا، هو أنّ سيطرة السياسي على الإعلامي قد تؤدي إلى حجب حقائق، لكن سيطرة الإعلامي على السياسي قد تؤدي إلى الفساد بكل أنواعه.
من هنا لا بد، في إطار ما أصبحت تُمليه وتفرضه حرية التعبير احترام الخطوط الحمراء التي تلعب في سياقها “منظومة الأخلاق الاجتماعية” دورَ “صمّام الأمان”.
تعيش البلاد موجات سياسية واجتماعية فيها الخالي من الحس الوطني، وفيها المنغلق في أجواء الماضي، وفيها السقوط الأخلاقي، وفيها غياب المهنية المنتظمة في قطاعات حسّاسة.
عرفت بحكم مسؤولياتي القيادية السابقة هذا القطاع بمستوياته المختلفة من معهد الصحافة إلى الإذاعة والتلفزة فالصحافة منذ 1988 وحتى 2007 تاريخ تقاعدي العادي، وشاركت في عدد من البرامج والحوارات والتغطيات وساهمت ولا زلت بمنشورات وكتابات، ولا أغازل أحدًا وليست لي مرامي، ولكن أرى صراحة بحكم هذه التجربة وبتواضع أن المادة الإعلامية المقدمة تحتاج إلى مراجعة واعتماد استراتيجية ذات أهداف، فالقائمين على البرامج والناشطين فيها وخبرائها “بين ظفرين” يكرّرون أنفسهم وهم لا يشعرون. وما يزيد الطين بلّة فتح الساحة الإعلامية على الطرح الفولكلوري للمتطفلين والدخلاء المتعجّلين.
عاصفة من علامات الاستفهام تعصف بالعقل، لماذا تُعادينا هذه القناة أو القنوات العربية وكيف تصنع على مشهد منا الرأي العام المخالف وتسوّق لرؤى لا تناسب مجتمعنا وتجمّل أكثر السياسات سوءًا لدينا. هناك هيمنة للفكر الانهزامي “المستورد“. وعلينا أن نقطع مع روح التنازلات معها والتي أحبطت الشارع التونسي ونستجمع قوانا للقيام بواجبنا في مواجهة هذا التدخل المشبوه سياسيا، وإعلاميا، أداءً، وفكرا وتأثيرا.
الإعلام والسياسة والقوة والمال هي مفردات في قلب واقعنا وأنّ مَيَلانها باتجاه بعض السياسيين أو مراكز القوى داخليا أو خارجيا، هو سقوط جديد لتنمية الاستبداد وإعادة بعثه بصورة شمولية ربما تكون أكثر فداحة.
* ضابط سابق في سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك