إذا كان الهدف من الاستشارة الوطنية الألكترونية التي ينظمها الرئيس قيس سعيد منذ الفاتح من جانفي الحالي هو تفعيل دور الشّعب كجسم مُختلف غير متناغم فذلك أمر مطلوب، أمّا إذا كان الهدف منها دعائيا ديماغوجيا، النيّة منه توجيه الرأي العامّ و استخلاص منه ردود بديهية تتوقّعها مُسبقا، فهذا أمر يشُذّ عن مسطرة النزاهة و الشفافية.
بقلم ميلاد خالدي *
تلجأ الأنظمة الفاعلة و غير الفاعلة حول العالم إلى الاستشارات و الاستفتاءات قصد تشريك الشّعب بعد التفنّن في دمغجته. إذ يُراد من هذه الاستشارات و الاستفتاءات رصد فوارق و اتّجاهات الرأي العامّ سواء كانت السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية ليتمّ من خلالها سنُّ مشاريع قوانين و قرارات على ضوء ما تُسفر عنه النتائج.
تفعيل دور الشّعب كجسم مُختلف غير متناغم أمر مطلوب أمّا إذا كان الهدف منه دعائيا ديماغوجيا، النيّة منه توجيه الرأي العامّ و استخلاص منه ردود بديهية تتوقّعها مُسبقا فهذا أمر يشُذّ عن مسطرة النزاهة و الشفافية.
ما يُحرّك الحسّ و الانتباه هو أوجه الاتّلاف و الاختلاف التي يمكن أن تثيرهما مبادرة الرئيس و لعبة النّرد في علاقتهما بالرقم 6 و وجوب حضور الخصم كي يكتمل قانون اللعبة. لاعب النّرد لاعب ماهر يجدُ نفسه ضمن الأرقام و الأحجار بينما لاعب النظام يجدُ نفسه مُتحذلقا على نحو الكتروني افتراضي جافّ.
استشارة وطنية…
التمشّي الذي انتهجه قيس سعيد في علاقته بالقيام باستشارة وطنية هو في المُجمل توجّه محمود لكنّ إذا تعمّقنا قليلا سنجدُ أنّ طريقة طرح الأسئلة على سبيل المثال فيها الكثير من الاسقاط إذا لم نقل إجحافا. فكيف يقع إدراج التعليم في آخر سُلمّ المحاور الذي هو أولوية مطلقة بالتوازي مع الصحّة و النّقل. إذا كان الشأن السياسي و الانتخابي تصدّر محاور الأولويات فيمكن القول حينها أنّه حتى وإن توفّر لدينا أفضل نظام سياسي وانتخابي لن يتغيرّ شيء لاسيّما إذا ألفينا أنّ حوالي مليوني تونسي يعانون من الأميّة: الطامّة المُجتمعية الخفيّة.
إذا كان تعريف الاستشارة هو طلب الإدلاء بالرأي، فلا داع أن تكون أسئلتك المطروحة انكارية و فضفاضة وروتينية و بعضها قُدّ على نحو ركيك. في الأثناء، دعت منظّمة “أنا يقظ” إلى مقاطعة الاستشارة الوطنية لأنّ المحاور ضعيفة والتعامل التقني كثير الهنات. بمعني أنّ عملية قرصنة الموقع مُمكنة و جائزة كما حدث بالنسبة لموقع ايفاكس، حيث صارت البيانات الشخصية في متناول أيّ كان و بالتالي مصداقية التعامل تبقى مُهدّدة لا سيّما إذا اعتبرنا أنّ هذه المعلومات يمكن استغلالها من طرف السلطة كورقة انتخابية رابحة.
بالإضافة الى ذلك نشعر أنّ الطابع التشخيصي غلب على مُجمل أسئلة الاستشارة أكثر من الجانب الاقتراحي الإبداعي الذي يُقدّم حلولا و علاجات. فكُلّنا نُدرك أسباب المشكل و مصادر الدّاء. فمن الغباء الاتصالي و السياسي أن تسأل مواطنًا تونسيًا هل الفساد و المحسوبية و تدهور البنية التحتية من العراقيل التي و اجهتك في بعث مشروع أو الانتصاب للحساب الخاص؟ فمن البديهي أن يجيبك بأنّ جميعها مُجتمعة. متى نتخطّى مرحلة الخطاب الكشفي التشخيصي نحو خطاب عملي تخطيطي براغماتي يقطع مع الثرثرة و التسويف على حساب زمن الانجاز؟
لُعبة النّرد الخفيّة…
ثمّة من يقول أنّ السياسة هي فنّ اتقان اللعب و أغلب القادة و السياسيين هم لاعبون مُحترفون، فالهُواة منهم يسقطون في الجولة الأولى. و أكثر لعبة يمكن أن تُمثّل الرئيس قيس سعيد هي لعبة النّرد. يحمل النّرد ستّة أرقام كما الحال في الأبواب الستّة للاستشارة الوطنية و من يُلقى بمكعّب النّرد في طاولة السياسة لا يكون إلاّ المُتحكّم الحصري في شؤون البلاد. لعبة النّرد هي لعبة الحساب الذهني بامتياز، ذلك الحساب الذي يُسجّل أهدافا في مرمى الخصم لكنّه لا يعتبرها أرقاما بقدر ما هي أجندات سياسية تقتلُ عصفور الدُوري ثم تمُرّ إلى الطيور الجارحة.
لماذا لا يكون هناك خصما لقيس سعيد؟ فلعبة النّرد تحتاج خصما، نريد خصما بحجم التحدّي الوطني، خصما بحجم الوطن. لا نريد لاعبا وحيدا أوحد يأكل حجر الخصم أو يهمُّ بإخراج أحجاره أوّلا. نريد خصما يُلقي بحجارته باتّجاه عقارب الساعة، ليس بالذي يُلقي بها عكس سير الزّمن. نريد لاعب نرد يخسرُ حينا و يربح حينا كما يقول محمود درويش في أحد قصائده. علينا أن نخشى قائدا سياسيا يربح كثيرا، فالخسارات هي ملح السياسة و الزعاماتية. فيجب على قيس سعيد أن ينتصر و يدع الأخرون ينتصرون أيضا، حتى تتغيّر السياسة من الداخل و يكون بذلك لتاريخنا البشري يوم موعود و عناوين تُكتب بالغليظ.
في مجلّة أمريكية مختصّة ذهب العالم الرياضي الألماني روبارت أومان Robert J. Aumann في علاقة “بنظريّة اللُعبة” إلى أنّ خيارات اللاعبين، حتى وإن تنازعت، تتفاعل فيما بينها في سبيل التأثير على النتائج بوجهها السياسي والاقتصادي و الاجتماعي. إنّه مجاز التكتّل والتحالف، أن نلعب معا من أجل أن نُعدّ خُطّة دامغة حتى النهاية. فما بالك إذا كان السياسي هو صانع اللُعبة و من المُرجّح أن يكون مُحدّدا لنتائجها سلفا. ناهيك أنّ السؤال المبدئي ماذا يريد الشعب؟ هو سؤال ساذج و مراوغ: الشّعب يُريد ما لا تريد أن تُفصح عنه. كفانا استغباءً على النمط الشّرقي البيزنطي.
* كاتب ومترجم.
شارك رأيك