تحولت قضية الشهيد شكري بلعيد الذي اغتيل يوم 6 فيفري 2013 إلى عبء يثقل كاهل عديدالسياسيين الذين تقاسموا المناصب و الترضيات و الغنائم مع حركة النهضة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم ناهيك أن الرئيس الحالي قيس سعيد لم يضع مسألة كشف حقيقة الاغتيال في سلم أولياته رغم فداحة الجرم و لم يشأ اطلاع الرأي العام على كل الحقائق التي توصل إليها مجلس الأمن القومي المتعهد بالملف منذ ولاية الرئيس الباجى قائد السبسي.
بقلم أحمد الحباسي
حين أعلن نور الدين البحيرى وزير العدل المعتمد آنذاك لدى رئيس الحكومة على العريض و بعد أكثر من ستة أشهر من تنفيذ عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد أن مصالح وزارة الداخلية قد تعرفت على ما سماهم “مدبري” الاغتيال تاركا لوزير الداخلية لطفي بن جدو مهمة الإعلان عن كافة التفاصيل. كان لافتا للمتابعين أن الوزير لم يتحدث عن “مدبري” الاغتيال بل عن المدعو كمال القضقاضي المتهم بإطلاق الرصاص على الشهيد بمعية خمسة أشخاص تمكنوا من الهرب حسب الرواية الرسمية للوزارة المعنية.
كان لافتا أيضا أن تعلن أسبوعية “آخر خبر” قبل أسابيع قليلة تواجد إثنين من هؤلاء القتلة بالتراب الليبي يرتبطان بعلاقات وثيقة مع إحدى التيارات الدينية الليبية المتشددة بقيادة المدعو عبد الحكيم بلحاج، و قبل أيام فقط كشف المحامى مبروك كورشيد عن وجود علاقة موثقة بين حركة النهضة و بين قيادة هذه الجماعات الليبية التكفيرية التي تقف وراء تمرير الأسلحة إلى التراب التونسي دون أن يستبعد تورطها في عمليات الاغتيال التي حصلت طيلة عشرية حكم حركة النهضة.
أسئلة ظلت بلا جواب طيلة أكثر من 9 سنوات
هذه المعطيات و الخفايا تجعلنا نحاول كشف المستور و طرح كل الأسئلة التي ظلت بلا جواب طيلة أكثر من 9 سنوات و لعل أهم الأسئلة يقول من كان مدبر عملية الاغتيال و من كان خلف هذه الجريمة التي اعتبرها الجميع جريمة دولة؟
لقد حاولت قيادة حركة النهضة منذ حصول الاغتيال توجيه الأنظار عمدا نحو من أطلق الرصاص و لعلها أول مرة ينطق فيها نور الدين البحيرى دون انتباه بالإشارة علنا إلى “مدبري” الاغتيال. تصريح البحيرى يشير إلى “مدبري” الاغتيال بصيغة الجمع و هذا في حدّ ذاته حقيقة و يشير إلى وجود “مدبرين” و ليس إلى منفذين و الفارق كبير و واضح. فمن كان إذن وراء التخطيط و تدبير عملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد بتلك الرصاصات الغادرة التي استقرت في جسمه صبيحة يوم 6 فيفرى 2013 ؟ لعل الإجابة عن هذا الأسئلة تستدعي البحث عن الدافع و المستفيد و كيفية التخطيط إضافة طبعا إلى قراءة المشهد بعد حدوث الاغتيال.
يجمع المتابعون و المحللون أن وصول حركة النهضة للحكم قد كان حدثا مفاجئا لهذه الطغمة الإرهابية التكفيرية التي تؤمن بممارسة العنف و الإرهاب كوسيلة للوصول للحكم و يقرّر هؤلاء أن الحركة المدعومة بقوة من قوى أجنبية و استخباراتية و صهيونية و هي على ما هي عليه من رفض للديمقراطية و التداول السلمي على السلطة لم تعد تقبل بأي صوت يعارض تنفيذها لمشروع ضرب الاستقرار في تونس و ضرب مؤسسات الدولة و جعل البلد مجرد قارب مثقوب يوشك على الغرق، هذا ما يفسر تعرض الشهيد شكري بلعيد إلى تلك الحملات المغرضة التي وصلت حدّ المس من شرفه بل هذا ما جعل قيادة النهضة تعى أن الوقت لم يعد مناسبا لمزيد انتظار كشف الزعيم اليساري لبعض الحقائق المدمرة و لعل كل الحملات الإعلامية التي سبقت عملية الاغتيال قد كانت تؤشر إلى أن قيادة الحركة قد وصلت إلى قناعة وحيدة لا مناص منها و هي التخطيط و تدبير عملية الاغتيال معتمدة خبرتها الذاتية و تعاونها مع جهات ليبية إضافة إلى مساعدة منظومة الإخوان التي يديرها رأس الشر يوسف القرضاوى. الفرضية النابعة من تحليل وقائع تاريخية ثابتة تستدعي إثباتات لعل القضاء لم يسعى كثيرا للحصول عليها و كشفها.
هل تسترت جهات قضائية على مورطين في الجريمة ؟
و مهما كان من أمر ربما تهاونت بعض الجهات القضائية و على رأسها النيابة العمومية التي يسيطر عليها الوكيل العام للجمهورية البشير العكرمى محاولة التستر على كل المورطين في قضية الاغتيال ساعية إلى تحصين بعض القيادات في حركة النهضة على رأسهم طبعا راشد الغنوشى و عبد الكريم الهارونى و حمادى الجبالى و على العريض رغم وجود أدلة و قرائن متظافرة ربما تدل على وجود رابط و إن كان ضعيفا بينهم و بين عملية الاغتيال و ربما تأكدت بمرور الوقت و سعي هيئة الدفاع في جريمة الاغتيال الاتهامات بضلوع أمنيين من بين المتهمين الذين لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحركة النهضة على غرار رضا الباروني الذي كان موظفا مكلفا بالشؤون الإدارية و المالية أو الطاهر بوبحرى الذي عيّنه على العريض مستشاره الخاص بوزارة الداخلية مكلفا باستقطاب الأمنيين و ربما ذهب حسن الظن بالبعض إلى اعتبار أن كشف الحقيقة في هذا الملف هو دليل على نجاح معركة استقلال القضاء و تأمين البلاد و ربما يتصور البعض أن الكشف عن حقيقة الجهاز السري لحركة النهضة سيبوح بكثير من الحقائق في علاقة بالعمليات الإرهابية التي استهدفت و لا تزال البلاد و في علاقة باغتيال الشهيد شكري بلعيد لكن الثابت بعد فوات كامل هذه الفترة الطويلة أن دم الشهيد قد ضاع بين انتهازية الأحزاب السياسية موالاة و معارضة.
من ساعد حركة النهضة على قبر ملف الاغتيال ؟
منذ اللحظات الأولى لعملية الاغتيال تأكد الجميع أن ما يقال عن دموية الإسلام السياسي و نزعته الفطرية للعنف و القتل ليست إشاعة مغرضة بل هي حقيقة ثابتة تواردت أصداؤها منذ نشأة تنظيم الإخوان المسلمين على يد مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنّا و منذ اللحظات الأولى كانت هناك شكوك كثيرة تحوم حول قيادات من حركة النهضة قد تكون دبّرت و خططت و مولت و أذنت بتنفيذ عملية الاغتيال بدافع حب البقاء في السلطة و هو المبدأ الذي أفتى به حسن البنا و من جاء من بعده في قيادة الإخوان و مجرد إلقاء نظرة على كتاب القيادي الإخوانى المنشق ثروت الخرباوى “سر المعبد” سيكشف للمتابع أن إنشاء الجهاز السري و تدريب عناصره لم يكن مزحة غبية بل هي خطة مدروسة لاستعمال الجهاز في تنفيذ الاغتيالات السياسية طمعا في إسقاط نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر و إحلال دولة الخلافة محله بدعم من المخابرات البريطانية و الصهيونية.
مع ذلك ظن البعض أن المشهد السياسي قبل تاريخ الاغتيال لن يكون نفسه بعد ذلك التاريخ و أن تلك اللحظات الشعبية العفوية المثقلة بالغضب و دعوات الثأر للشهيد ستتلقفها الجهات السياسية المعارضة لتصنع منها خريف الاخوان لكن ذلك لم يحصل.
لعل هؤلاء الذين رفعوا صورة شكري بلعيد و تباكوا عليه أمام وسائل الإعلام مثل الراحل الباجى قائد السبسى و يوسف الشاهد و نبيل القروي و غيرهم من اليمين و اليسار هم من حاولوا بكل الطرق الخبيثة مساعدة حركة النهضة بطريقة غير مباشرة على قبر ملف الاغتيال بلا رجعة محولين فاجعة الاغتيال إلى مجرد نصب رخامي تذكاري و خطاب تأبين هزيل ألقاه “الرفيق” حمة الهمامي بقي مضغة في الأفواه.
لقد تحولت قضية الشهيد شكري بلعيد إلى عبء يثقل كاهل هؤلاء السياسيين الذين تقاسموا المناصب و الترضيات و الغنائم منذ 2013 إلى تاريخ اليوم ناهيك أن الرئيس الحالي لم يضع مسألة كشف حقيقة الاغتيال في سلم أولياته رغم فداحة الجرم و لم يشأ اطلاع الرأي العام على كل الحقائق التي توصل إليها مجلس الأمن القومي المتعهد بالملف منذ ولاية الرئيس المغدور الباجى قائد السبسي.
الآن، بعد تسعة سنوات لا يزال السؤال معلقا حول من دبّر و خطط للاغتيال رغم توارد المعلومات التي تشير إلى تورط قيادات من حركة النهضة بصفة مباشرة و لا تزال عملية البحث عن خفايا العملية متواصلة رغم كل ما اقترفه البشير العكرمي من تجاوزات لطمس كل معالم الجريمة السياسية.
في كل الأحوال يعتقد الكثيرون أن هذه الجريمة القذرة هي جريمة دولة بامتياز مرت بمرحلة الإعداد و التحضير و الرصد و التنفيذ ثم الحماية الأمنية و القضائية و الإعلامية و التستر على كافة عناصر هذه المنظومة و هناك من يشبّه هذه العملية بعملية اغتيال الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي في مدينة “دالاس” في 22 نوفمبر 1963 للقول بأن كشف الحقيقة سيكون صعبا جدا إن لم نقل مستحيلا.
مع ذلك لا يزال هناك بعض الأحرار ممن يطالبون بكشف الحقيقة و محاسبة قيادة حركة النهضة معبرين أن الملف لم يغلق بعد و أن مسار البحث عن الحقيقة ما زال طويلا و شاقا و هؤلاء المتشبثين بالحقيقة لا يزالون على اعتقادهم بأن هناك من رجال الأمن و القضاء من سينتصر يوم للحق و يقدم كل المعلومات و يفصح عن الأحكام القضائية الشافية للغليل.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك