هكذا بدا الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ توليه السلطة ثائرا على الفساد الذي استشرى في البلاد بشكل مخيف نعاني من آثاره اليوم بعد سنوات من الثورة التي ألقت بظلالها على الشعب التونسي برمّته، بيد أن هذه الثورة على الفساد كان من المفترض أن تقع مباشرة إثر هروب الرئيس السابق زين العابدين بن علي غير أنها تأخرت كثيرا بفعل عوامل مصلحية تسببت في إحداثها الأحزاب السياسية المتراكمة التي انفجرت في وجه الكتلة الحزبية الحاكمة آنذاك وانتشرت وتكاثرت إلى حدّ التخمة بدعوى الديمقراطية والتعددية.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد *
هذه التعدّدية الحزبية بضوابطها السابقة أحدثت شرخا كبيرا في المجتمع التونسي ومزّقت وحدته وأدت بالدولة إلى الانهيار البطيء، واشتغلت الأحزاب بمصالحها الذاتية دون المصالح الوطنية فوقعت في شراك الصدام والاصطدام – إن صح التعبير– مرة مع السلطة القائمة ومرة أخرى فيما بينها وأسهم هذا كله في تأخر الدولة التونسية ومؤسساتها التي بدأت تشهد تفككا وتسيّبا منذ ذلك التاريخ، وكان الجو العام يساعد من يريد أن يعبث بالدولة وأمنها واستقرارها في منظومة من الفوضى العامة لاشتغال الأحزاب ونواب الشعب والحكومات المتعاقبة على السلطة بما يمكن أن يحقق لهذه الأحزاب مصالحها على المدى الطويل، فلما حدثت انتخابات 2019 كان الأمل في انتخاب رئيس جديد يحارب المنظومة القائمة طوال 10 سنوات مضت، لم تقدم شيئا للشعب التونسي، ولم يلمس الشعب تحولا كبيرا على مستوى معيشته ولا مستوى تقدم الدولة للأمام، بل كان هناك تعثر دائم وشكوك حول ملفات عدة أهمها ملفا الإرهاب والفساد.
أحزاب متآكلة لم تعد تنفع البلاد
ولم يكن السيد المنصف المرزوقي ولا الباجي قايد السبسي عندما تولّيا الرئاسة رسميا يعملان من أجل التغيير، بل كانا يسايران الأحزاب السياسية في تصادمها واصطدامها بالدولة فحدثت خروقات كبيرة وخطيرة على كل المستويات، وكان كل حزب يغنّي على ليلاه، وانعكس ذلك واضحا وجليّا على مجلس النواب الذي كان مكانا تجلجل فيه الخطب النارية والركلات الترجيحية والأصوات العالية والصراخ الدائم، وبدا كأنه حلبة مصارعة بين هذه الأحزاب المتآكلة التي لم تعد تنفع البلاد لا شرقا ولا غربا.
في ظل هذه التموجات الخطيرة برز السيد قيس سعيّد وهو الذي لا ينتمي إلى حزب ولا يعترف بالأحزاب السياسية، كان همّه خدمة الشعب التونسي وإخراجه من المحنة، وكان يعلم أنه لن يستطيع فعل ذلك في ظل دستور يقيّد حركته ويمنح الحكومة كل الصلاحية، فثار على الدستور من خلال الدستور وأحدث إجراءات جديدة في حالة استثنائية كانت ستؤدي إلى البلاد إلى فوضى عارمة لو استمر الحال، فالشعب التونسي اختنق ولم يعد يتحمل ما يشاهده على القناة الوطنية مباشرة ومن صرْح مجلس النواب، مهاتراتٌ وخزعبلات وصراخات وعمليات اقتحام، وغيرها من التصرفات.
ثم ثار على الحكومة القائمة وجمّد هذا المجلس واحتكم للشعب الذي يرى أنه هو مصدر السلطة لا هذه الأحزاب الفاشلة التي لم تصنع شيئا ولم يعد الشعب التونسي يرغب فيها كلها بلا استثناء، فهو يريد تغيير النظام السياسي برمته ويمنح الرئيس الصلاحية الكاملة في اتخاذ الإجراءات المناسبة وتشكيل الحكومة وإصدار المراسيم لتطهير البلاد من الجراثيم العالقة والتي قد تشكل خطرا حقيقيا على البلاد من الداخل.
ليس من المستحيل أن تتغير تونس
كانت هي الثورة الحقيقية على المنظومة القائمة التي تفشى فيها الفساد ونخرتها الفوضى، فكان لزاما على الرئيس أن يتدخل ويخضع جميع المؤسسات التي نخرها الفساد لجراحة عاجلة ويطهّرها تطهيرا، وما زلنا نعتقد أن الرئيس قيس سعيّد على صواب فيما يقوم به من أعمال لأنها تسهم جميعها في إصلاح المنظومة السياسية والقضائية لتتحرك عجلة الاقتصاد إلى الأمام ولتشهد تونس عهدا جديدا من الازدهار والنماء.
نقرّ لا محالة بصعوبة المرحلة لكن ليس من المستحيل أن تتغير تونس، فلا يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون، ولا يستوي الذي يقولون ويعملون والذين يقولون ولا يفعلون، هذه هي تونس اليوم تحتاج إلى جرأة وقوة في اتخاذ القرار الذي يمكن أن تمرّ منه تونس وقد تخسر بعض المكتسبات، لكنها في النهاية تتجاوز كل العقبات وتصل إلى بر الأمان، فالمرحلة التي تمر بها البلاد اليوم مرحلة تطهير وثورة على القائم لأنه لا يصلح أن تمتد منظومة الفساد أو تواصل العمل بنفس الوتيرة.
* محلل سياسي.
شارك رأيك