حُكام ما بعد 2011 في تونس وقفوا عند وضع خطّ فاصل بين النظام القديم والنظام الجديد. وغاب على هؤلاء أنه وحتى بعد اكتمال حركة تغيير النظام، فإنّ ملامح هذا النظام ظلّت باقية. ويرجع ذلك إلى أنّ السياسات والتحوّلات لا يتم إجراؤها وتعديلها بقرار سياسي، بل استنادا لقدرة الشعب على الوعي بها وممارستها في إطار نسق يحترم الدولة والسياسات التي رسمتها لتقدمها.نوستلجيا أو الحنين إلى مفهوم الدولة.
بقلم العقيد محسن بن عيسى *
مضت الآن سنين لا بأس بها على شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، كنت متقاعدا في ذلك التاريخ. تفاعلت مع هذا المطلب كجل الشعب التونسي، لقد كان النظام يعيش حالة انحراف عن المسار انطلقت منذ سنة 1989، وتسارع نسق الانزلاق بظهور نخب جديدة مشبوهة للمال والأعيان والأنساب لينتهي بفقدان ثقة الشعب.
ماذا سيحدث لتونس غدا؟
تغيّر النظام وعرفت مشاعر مختلطة مثل أغلب أبناء جيلي من المتقاعدين الذين لهم دَيْنٌ تجاه تونس التي علّمتنا، وحفظت صحّتنا، وأهّلتنا للجامعات والمدارس العليا، ووضعت ثقتها فينا للمشاركة في معركة البناء. هي مشاعر ما بين التفاؤل والألم والشجون والحزن والندم أحيانا. هي حنين إلى الأشخاص الذين كانوا مدارس في ممارسة المسؤولية، إلى الأماكن التي كانت هيبتها من هيبة الدولة مهما كان موقعها على الحدود في مراكز متقدمة أو في قلب العاصمة بمسمّياتها المختلفة. هي “نستلجيا” العلاقات القوية بين أجهزة الدولة وربما حنينٌ لأنفسنا.. لم يكن كلّ شيء في عهدنا جيّدا، لقد عملنا أحيانا تحت إِمرةِ وِزْرٍ وليس وزير وماكر وليس مُدير ولكن كنا على معنى الوطنية نعمل ونواجه ونتقدّم.
لقد جعلتنا سياسة اليوم نتمسّك بالماضي بكل ما فيه لأننا لا زلنا ننتظر ماذا سيحدث لتونس غدا. هناك صراحة حالة اغتراب وتراجع في النضج الاجتماعي وصعوبة تكيّف مع الواقع القائم. من الصعب استيعاب ما يفعله هؤلاء “المهوّسون” بالسياسة على مدارج المسرح البلدي وغيره، وفهم ما تنشره “هيئات مُحترمة” عن “حالة القضاء”، هذا الهيكل الذي كان معنا على الخطوط الأولى لحماية الدولة ليس فقط من الجريمة والتهريب والإرهاب والاختراق وغيرها، ولكن من تجاوزات أبنائها حتى في المناصب العليا.
لا أميل كثيرا إلى “نظرية المؤامرة” التي يطرحها البعض لإخفاء ضعف الدولة. الواقع أن حُكام ما بعد 2011 وقفوا عند وضع خطّ فاصل بين النظام القديم والنظام الجديد. وغاب على هؤلاء أنه وحتى بعد اكتمال حركة تغيير النظام، فإنّ ملامح هذا النظام ظلّت باقية. ويرجع ذلك إلى أنّ السياسات والتحوّلات لا يتم إجراؤها وتعديلها بقرار سياسي، بل استنادا لقدرة الشعب على الوعي بها وممارستها في إطار نسق يحترم الدولة والسياسات التي رسمتها لتقدمها.
القطع مع البداوة السياسية
كيف يمكن ان نقبل بوجود دولة داخل دولة بعد أكثر من 10 سنوات ونحن ندرس ونحلّل ونقرّر؟ أو نفهم خروج شخصيات وهياكل عن إرادتها؟
علمت فيما اعلم أنّ القرارات وإصدار القوانين في فترات الانتقال التي تتجسّد فيها التناقضات بين القديم والجديد تؤدي إلى تشويه البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وإلى إفراز أنماط جديدة من الفساد والفوضى. ويعني ذلك أنّ التغيّرات التي طرأت على خريطة السياسة في تونس ماهي إلا حصاد لسياسات وإجراءات خاطئة. لقد ذهب البعض من العقلاء في معرض حديثهم عما يجري لدينا، إلى أنّ تنظيم الحياة في تونس يعيش مخاض من حالة الاندماج والتجاوز إلى حالة الانعطاف والتحوّل، وأنّ الفوضى التي تطالعنا اليوم هي حالة ملازمة لمثل هذا الواقع.
إنّ التغيير المنتظر على ما يبدو ليس في البيانات الصادرة من هنا وهناك، أو في القراءات السياسية المتضاربة مع بعض الاستثناءات، بل في منظومة القيم السائدة والحاكمة للسلوك بوجه عام، وفي السلوك المنهجي والرصين لرموز الدولة. سلوك يستند الى ثوابت وتحليل معمّق للقضايا الراهنة. لا شك أنّ هناك حاجة متأكّدة لمعالجة الخطاب السياسي والإعلامي بكل أشكاله وصوره. إنه بمقدور البعض ورأفة بأنفسهم اختيار ” صمت الحكمة” أو الاستئناس بـ ” خطاب العروي” رحمه الله لمراوحته اللطيفة بين الفصحى والعامّية وعمقه الاستراتيجي، فهذا أجدى لهم وأريح للجميع.
لا أريد بالمناسبة الوقوف عند مزاعم بعض الدول واهتمامها بالديمقراطية وحقوق الانسان وحرية التعبير لدينا، فمواقفها كانت ولازالت متأرجحة وصدقها فيما تدّعيه كشفته مواقفها حول ” القضية الفلسطينية”. هذا النموذج السياسي ” الكيل بمكيالين”، سيتكرّر لترجيح مصالحها كلما انهارت إحدى الدول العربية وتزايد الصراع بداخلها. أتصور أنّ الوضع في تونس عبارة عن كف مفتوح أمام المخابرات الأجنبية،
وساعد التسيب على مزيد من الاختراقات للصفوف التونسية. لم نصل بعد إلى المستوى النهائي من التحصين لكن الأداء الأمني يتعافى ويتقدّم.
هناك شرطان لا بدّ منهما في المرحلة القادمة: قوّة العمل وأمانة الأداء.
* ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك