الكاتب وهو جامعي و مؤلف في مجال الفلسفة و العلوم الانسانية يحلل في هذا المقال مفهومي السلطة و الوظيفة في علاقتهما بالقضاء كما طرحها الرئيس قيس سعيد في جداله مع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء. وهو يرى أن في دولة نظامها جمهوري تعتمد الديمقراطية يكون القضاء سلطة مستقلّة عن الحكومة وعن كلّ الأحزاب و لكنه يظل وظيفة تابعة للدولة الضامنة لوحدة السلطات.
بقلم فتحي التريكي *
إذا أردنا التعمّق شيئا ما في مفهومي الوظيفة والسلطة علينا قبل كلّ شيء أن نفكك المعاني والدلالات ذلك قد يؤدّي بنا إلى ضبط انتماء القضاء الحقيقي هل هو سلطة أم وظيفة مع العلم أنّه من السهل نوعا ما تحديد معنى الوطيفة ومن الصعب توضيح السلطة. فالوظيفة عمل يساهم به الفرد في الثروة الجماعية للمجتمع وفي تنظيمه وتدبير شؤونه ويكون هذا العمل منظما حسب قوانين مضبوطة واختصاصات معلومة يتحصل بواسطتها على أجر مالي مضبوط مقابل مجهوداته.
فلا شك إذن أن القضاء في النظام التونسي وظيفة محددة بقوانين. فلن تجد في هذه المنظومة قضاء تطوّعيا. بقي أن نعرف هل هو سلطة في حدّ ذاته. فلنفكّك معنى السلطة.
الأبحاث السياسية بيّنت أن السلطة في جوهرها تقوم على جدلية المشاركة والخضوع بين الحاكم والمحكوم. وهي جدلية تخول للحاكم أن يبني لممارساته نوعا من النجاعة ليصبح مهابا وللمحكوم أن يتدخل قي تلك الممارسة بالقبول أو النقد أو الرفض فيكون هو بدوره فعالا ومهابا.
في جدلية السلطة و الحكم و الوظيفة
وقد نجد هذه الجدلية في جل معاني كلمة “حكم” حيث هناك تناغم لدلالات متعددة، كالقيادة والعقاب والمنع والأمر وإصدار الأحكام والقواعد والقوانين. فالحكم يعني إذن تلك الممارسة المتواصلة للسلطة التي لها الأمر والنهي والمنع والعقاب، وهذا المعنى هو الذي سيطر في نمط فهم العرب عامة للسلطان، إذ أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة سلبية أساساً، لأن الحاكم هو الوازع وهو الذي يردع ويخيف ويعاقب، بجانب عمله التشريعي.
فكلمة حكم لا تفرق بين التشريع والقضاء والتنفيذ، وليس هناك ما يفيد هذا الفصل في المعاني. أما كلمة سلطان فيبدو أنها سريانية الأصل، وقد استعملت في القرون الأولى للإسلام لتفيد الحكم السياسي، وفي القرآن لهذه الكلمة معنى السلطة الروحية والسلطة الأخلاقية والسلطة السياسية، هذا المعنى الأخير نجده في هذه الآية الكريمة : “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ” (سورة أبراهيم آية عدد 22).
وقد استعمل العرب مؤخراً كلمة سلطة لتفيد المعاني السياسية لكلمتي حكم وسلطان، وهي كلمة اشتقت من فعل سلط الذي يعني القدرة على الكلام بوقاحة والسلط هو الذي يكون قوياً وصاحب اللسان يؤذي سامعه، يقول الشيرازي: “السلط والسليط الشديد واللسان الطويل”ولسنا نضيف شيئا إذا قلنا بأن تمظهر السلطة يكون في كل الأحوال بواسطة الغلبة والهيمنة. والهيمنة تتطلب أن يكون الأمر مرتبطاً دائماً بالخضوع، فتحدد بذلك داخل الحقل الشاسع لعلاقات القوة ميداناً مختصاً يكون فيه الخضوع قاعدة تفيد غياب عنصر الصمود غياباً كليّاً. فمفهوم الهيمنة لا يتطلب إقرار القوة فقط، بل وأيضا ملكة الخضوع سواء كانت واعية وعن شعور وتعقل أو عن غير وعي.
يكون حضور السلطة خفيا وملموسا في الآن نفسه، لأنه نسيج كل حقل اجتماعي نعترضه داخل العلاقات التي تتمحور داخل العائلة وفي العلاقات الجنسية والعمرانية، كما نجده في المدرسة والعمل والإدارة والورشة وغيرها من حقول العلاقات البشرية والاجتماعية… فحضور السلطة متنوع ومتعدد، لأننا لا نجدها داخل مجموع مؤسسات وأجهزة تتحكم في المجتمع فقط بل نجدها أيضا متشابكة داخل النسيج الاجتماعي نفسه، كما أكد على ذلك الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. يعني ذلك أن السلطة ممارسة قبل أن تكون جهازا أو مؤسسات، لهذا فهي تأخذ أساسا شكل الصراع الآني والمستمر في آنيته، والصراع الآني ينتج حتما أجهزة قمع معقلنة تحاول السيطرة على هذه الصراعات فتقنن أشكالها ونمط العمل داخلها، وهي تقوم على الإخضاع والخضوع والقمع والسيطرة. والدولة نتيجة لتجميع السلطة وتوحيدها لأنها تقنن الصراع الآني وتشرع القمع وتحتكره.
القضاء سلطة ضمن السلط التي توحّدها الدولة
هكذا، فإن الدولة هي قبل كل شيء بناء للسلطة في معنييها القدرة والقوة، تحكمه مجموعة من القواعد والقوانين، ويتجسد هذا القانون في مؤسسات مدنية تعتمد العمل الإيديولوجي، وأخرى عسكرية وأمنية تعتمد العنف المشروع. إلا أن هذه المؤسسات تكون حتما أعلى هياكل العنف والقوة في المجتمع، يعني أن لها مشروعية ممارسة العنف المقنن والمشروع داخل حدود الدولة، فللدولة سلطة السيادة معترف بها من قبل شعبها ومن قبل الشعوب الأخرى.
بهذا المعنى يكون القضاء سلطة ضمن السلط التي توحّدها الدولة. فهل هي سلطة مستقلّة ؟ جون لوك الفيلسوف الأنجليزي هو أوّل من نظّر لاستقلاليّة القضاء ومونتسكيو الفرنسي وضّح هذه الاستقلاليّة وقنّنها وعليها يقوم مفهوم الجمهوريّة وتصوّرات الحداثة. يقول منتسكيو : “كل شيء سيضيع وينتهي إذا مارس الرجل نفسه، أو نفس الهيئة، السلطات الثلاث الآتية: سلطة سن القوانين (السلطة التشريعية)، وصلاحية تنفيذ القرارات العامة (السلطة التنفيذية)، وصلاحية الحكم في الجرائم أو الخلافات بين الأفراد (السلطة القضائيّة)”.
هكذا في دولة نظامها جمهوري تعتمد الديمقراطية يكون القضاء سلطة مستقلّة عن الحكومة وعن كلّ الأحزاب ووظيفة تابعة للدولة الضامنة لوحدة السلطات.
* أستاذ جامعي و باحث فلسفي.
شارك رأيك