يتساءل المتابعون لماذا لم يقم رئيس الدولة بدل هذه الاستشارة الوطنية الفاشلة شكلا و مضمونا باستفتاء شعبي حول بقاء المجلس الأعلى للقضاء من عدمه أو حول مدى الثقة التي يحملها المواطن نحو الهيكل القضائي برمته و هذا المجلس الآيل للسقوط تحديدا. لقد كان بالإمكان أن يتحصل الرئيس على نتيجة استفتاء يقرّ واجب القيام بتقويض هذا المجلس بتركيبته المشبوهة الحالية بحثا عن صيغة و تركيبة أخرى و كان ممكنا أن يجد المجلس و “قضاته” المختلف عليهم في موقف لا يحسدون عليه و قد أصبحوا يمثلون عبء على المواطن و على المشهد الديمقراطي.
بقلم أحمد الحباسي *
لقد اختار الرئيس المواجهة العلنية المفتوحة مع هيكل و منظومة قضائية متكونة من قضاة التعليمات و قضاة اللوبيات و قضاة الفساد و هذه المنظومة كغيرها من المنظومات التي تعيش على الفساد ليست مستعدة للتنازل أو الاستقالة لأنها تعرف أن تلك الخطوة ستتلوها محاسبة قضائية عسيرة ستؤدي بعدد من المنتسبين إليها إلى السجن و الشطب.
ترقيات متواصلة لمن خانوا الوطن
لا أحد يصدق أن تشبث هذه المنظومة بحتمية بقاء المجلس الأعلى للقضاء له غايات نبيلة أو أنه ينبع من حرص المنتسبين لهذا المجلس على بقاء هيكل مهم من دعائم الديمقراطية و لا أحد يصدق الرواية الهجينة التي يطلقها البعض مثل السيد أنس الحمادى أو السيدة روضة القرافى على سبيل الذكر لا الحصر من كون أولوياتهم هي تطهير القضاء أو القضاء على الفساد أآو محاسبة القضاة الذين تبين أن فيهم من يبيّض الإرهاب و لا يريد محاسبة الإرهابيين فكل الأدلة و الشواهد تؤكد أنه رغم مرور أكثر من عشرة سنوات من هذه الثورة البائسة فلا أثر لمحاسبة أو إعفاء أو زجر و كل ما وقع هو ترقيات لمن خانوا الوطن و القسم القضائي و صمت مخز على حالات سقوط القضاء في بحر خدمة أطراف سياسية متآمرة و عميلة.
لقد تم الكشف عن تلاعب القضاء و أعضاء من المجلس الأعلى للقضاء أنفسهم بملفات تهم الأمن القومي و ملفات تهم الجرائم السياسية و غسيل الأموال الملوثة إلى آخره غير أن المنظومة لم تشأ القيام بعملية التطهير بل أقامت الدنيا من أجل التعتيم على هذه الجرائم.
لا أعجب هنا من مواقف و تصرفات بعض أبواق الفتنة و التضليل الإعلامي في دعمهم المشبوه لبعض رموز القضاء الفساد و رموز الانتهازية و البحث عن المناصب و خدمة الأجندات و لا أعجب بالقدر نفسه من هؤلاء السياسيين المتكالبين على السلطة و بالذات قيادات حركة النهضة الذين كانوا من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط القضاء و صعود رموز فاسدة نراها اليوم تدعى العفّة و النزاهة و تدعى الدفاع عن “المريول القضائي” لكن أعجب من هذه الفئة القضائية الصامتة التي يتم اقتيادها إلى القيام بإضرابات قطاعية وحشية تزيد من نقمة المتقاضى و تعطل مصالحه.
منظومة قضائية فاسدة تحتمي بحركة سياسية ظلامية
بطبيعة الحال، لا يمكن لمنظومة قضائية استغلت هشاشة الدولة و احتمت بحركة ظلامية اسمها حركة النهضة لتقوم بإضراب لمدة شهرين غير مسبوق في كل بلدان العالم عطلت فيها مصالح القضاء و المتقاضين أن تطالب الشعب بمساندتها أو الإقرار بشرعية مطالبها الإنتفاعية الانتهازية كما لا يمكن لهذا المجلس الذي وقفت الجموع الشعبية أمام مقره منادية برحيله أن يدعي شرعية أو مشروعية.
إن هذا المجلس و هذه التركيبة غير المتجانسة التي ولدت منقسمة على نفسها من البداية هو أشبه بقصر قديم مهجور و لذلك لم يكن يوما في مستوى حرارة الأحداث و لم يتعامل مع دماء الشهداء بما يقع عليه من مسؤولية ليبقى السؤال هل أن مردّ ذلك هو الانتهازية المقيتة أو التكالب على الكراسي؟
أعتقد أن هذا المجلس يعانى من ضمور على كل المستويات و هذا ما ترتب عنه حالة من الجمود أو البرود أصابت هذا الجسم الذي انقسم على نفسه حتى تيبّست أعضاؤه و صار عاجزا عن التفاعل إيجابا مع محيطه و لم يعد هناك من ينتظر منه خيرا. ذ
هذا المجلس الآيل للسقوط لم نتعود منه إلا الفشل و الزئبقية في المواقف و التصرفات و كان أملنا أن ينجز حسنة واحدة في تاريخه المظلم و قد جاءته فرص تاريخية عديدة ليكفر عن سيئاته و ذنوبه التي لا يمكن تعدادها إلا أن من تعود على الإخفاق و صار مثالا للفشل الذريع استمر فى مراكمة فشله و إخفاقاته و أظهر لنا حججا واهية لتبرير سيئاته و وقف كالعادة ضد إرادة الشعب و في المكان الخطأ.
كتلة جامدة تتقاسم مصالحها الشخصية
هذا المجلس الذي بدلا أن يكون جسما قضائيا فاعلا و جهازا منيعا لرد المظالم تحول إلى مجرد كتلة جامدة تتقاسم مصالحها الشخصية الأنانية الضيقة و إلى مجرد حاضنة لكل النفوس القضائية الأمّارة بالسوء. لقد أصبح أغلب أعضاء هذا المجلس مجرد أرقام في مسبحة الفساد كل همهم هو البقاء في السلطة و ارتقاء المناصب و نيل المكاسب و الحفاظ المستميت على استمرار وجودهم بحيث تكوّن بينهم و بين الشعب ستارا أو جدارا يحجب عنهم رؤية مشاعر الغضب فهل كانوا يظنون أن المواطن سيصمت عليهم إلى الأبد ؟
إن أرشيف الذاكرة الشعبية يحتفظ لهؤلاء القضاة الفاسدين الذين شوهوا بقية القضاة النبلاء بكثير من خطاياهم. ربما إتلمّ الشامي على المغربي في المجلس الأعلى للقضاء ليلتقي كثير من الإخوة الأعداء و كثير من الأضداد الذين لم نعرف لهم سجلا قضائيا ناصعا بل كثيرا من العيوب و المآخذ لكن من الثابت أن المجلس الأعلى للقضاء قد أصبح يمثل عبء على المواطن و على المشهد الديمقراطي.
* كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك