غزو روسيا لجارتها أوكرانيا التي كانت إلى عام 1991 جزءا من الإتحاد السوفياتي تطرح مسألة الدولة و الحدود الدولية و النزعة الامبراطورية الكامنة في التاريخ و الجغرافيا و المتوسلة بهما لتبرير التحريك المتواصل للحدود.
بقلم ميلاد خالدي
التاريخ و خطر التّماس…
كثيرا ما يقال أنّ عهد الامبراطوريات لا يموت فهي كالبركان يخمد لعهود طويلة لكنّه يثور ليلتهم جيرانه و يُبرّر ذلك بخطر التّماس. ليس هناك من قائد يقول لك لقد جئت لأُحيي مجد امبراطورية بلدي و أُزيل عنها غبار العولمة و المعلوماتية. فسياسة أردوغان التوسّعية في أفريقيا و آسيا و البحر الأبيض المتوسّط تندرج ضمن زمن الدولة الغازي لأنّ أردوغان يعتبر أنّ زمن الدولة التركية قد حان كي يتمطّط شرقا و غربا، شمالا و جنوبا. في استراتيجية التفكير الامبراطوري، الأمس يشفع للحاضر و المستقبل، والتاريخ يهيئ الطريق نحو الغزو الدافئ و المشروع.
في الحقيقة هناك نوعان من الامبراطوريات، امبراطوريات ناشئة و حديثة العهد كالإمبراطورية الأمريكية. كلّ العالم يقبع تحت سيطرتها و يأتمر بأمرها و لا يُشقّ لها عصا الطاعة.
أمّا النوع الثاني من الإمبراطوريات هو الامبراطوريات العتيقة، كالإمبراطورية السوفياتية و الامبراطورية العثمانية و الامبراطورية البريطانية. هذا النوع من الامبراطوريات هو ذلك المارد الخفّي الجائع الذي استيقظ كي يأكل و يلتهم ثمّ يبسط نفوذه ويقنعك أنّ قدومه إليك هو قصد حمايتك من نفسك و من المُحاطين بك. هي منهجية “تسييل” الحدود Border Liquifying و جعلها سائلة متحرّكة اليوم هنا وغدا هناك و هكذا.
لقد حان زمن الدولة الغازي ليُذيب الجغرافيا و لا يجمّدها لأنّه لو جمّدها، من المحتمل أنّ الجليد يُنهي حياته. كُلّما كانت الجغرافيا سائلة، كُلّما كان تعويمنا للأفكار و الإيديولوجيا رائعا و دامغا. “ابق حيث أنت، أنا قادم”، مقولة جندي مغولي لمواطن يُقال أنّه ينتمي إلى الدولة العبّاسية.
زمن الدولة الغازي…
لقد اعتقدنا أنّ الاستعمار التقليدي بالدبّابات و القنابل بات من الماضي لا سيّما في زمن القرصنة الإلكترونية و الهاكر الافتراضي و الفيروسات العابرة للقارّات دون أن تراها أو تحدّد ماهيتها. لكن مُؤخّرا قامت القُوّات التركية بالتدخّل العسكري في منطقة ناغورنو كاراباخ لصالح آذربيجان ضد أرمينيا. هذه العقيدة القتالية هي من قبيل أنا هنا و طالما أنّك بجواري إمّا أن تنصاع أو أن أجعلك تنصاع و بالفعل وقع ضم منطقة ناغورنو كاراباخ إلى اذربيجان في محاولة لاستحضار الماضي الامبراطوري التليد ‘يدي طولى و أرضي هناك”. وعي القائد الباطني يقول له كلّ ما هو محاذي لي هو جزء منّي بحُكم الموروث و حتمية تفعيل زمن الدولة الغازي.
الحدود السائلة…
الحدود السائلة هي الحدود التي لا تعترف بالحدود الدُولية و الجغرافيا السُكانية و الطبيعية. هي الحدود البرية و البحرية و الجويّة التي يمكن أن تتغيّر بمفعول زمن الدولة حيث أنّه يمكن أن يتقلّص أو يزداد وهذا متوقّف على مدى الرغبة في الاسيتلاء و ديمومته و فاعليته.
عندما نتحدّث عن سيولة الحدود و الجغرافيا نتحدّث بالضرورة عن المجال الحيوي الأنوي و المجال الحيوي الآني. المجال الحيوي الأنوي هو المجال الذي أُفتكّ منك نتيجة هوان دولتك فتسبّب في شرخ على مستوى الأنا الحاكمة و الأنا الشعبية على حدّ السّواء. و كُلّما كان الشرخ عميقا و غائرا كُلّما كان الغزو عنيفا و مُبرّرا. إنّه إرث إمبراطوري مجروح يسعى إلى الوقوف من جديد لردّ اعتبار زمن الدولة.
أمّا المجال الحيوي الآني فهو المجال الذي جاء بعامل الضرورة الجيوستراتيجية و موازين القُوى الحالية في العالم.
بلغة أوضح، من يرى في نفسه القدرة العسكرية و السياسية على التوسّع على حساب الآخر فله ذلك، طالما أنّ هناك مصادر للطاقة في البحر و المحيط و اليابسة تُسيل الحدود و اللُعَاب.
السياسة بين الخليّة الميّتة و التمدّد…
في الفيزياء، هناك ظاهرة تُسمّى بالتمدّد الحراري Thermal Expansion، وهو تغيّر شكل المادّة نتيجة لتبدّل درجة الحرارة. و المادّة المقصود بها هي الدولة من خلال إقليمها الجغرافي المحدّد و المُتّفق عليه و عامل الحرارة هو العوامل الاقتصادية و الجغراسياسية التي بمقتضاها يتغيّر شكل الاقليم.
يقول عالم الأحياء الألماني أرنست هيكل أنّ “السياسة هي علم الأحياء التطبيقي”، بمعنى أنّ السياسة و الكائن الحيّ يشتركان في خاصيّة الاستقرار أو التوازن الداخلي، كلّ يبحث عن سبل للتكيف مع بيئته و محيطه و حدوده كي يضمن بقاءه، وفي حال فشلا في التكيف سيكون مصيرهما الزوال و الوصم.
كلّ خليّة حيّة هي نتيجة لخليّة سابقة ميّتة، وكلّ سياسة حيّة هي نتيجة لإمبراطورية سابقة ميّتة. السياسة الروسية البوتينية هي تلك الخليّة الحيّة التي جاءت على أنقاض الاتحاد السوفياتي، تُريد أن تحافظ على توازنها و أمنها الداخلي بتأقلمها مع البيئة و المُحيط. و إذا كان ذلك المحيط غير مُرحّب به سنقوم بتفعيل نظرية تطوّر الخليّة و السياسة، ألتهمك كي أُجدّد خليّتي وبالتالي تتأبّد نواة كياني.
شارك رأيك