“جوّعونا سيدي الرئيس”، هذا ما سمعناه من المواطنين أثناء زيارة الرئيس قيس سعيد أخيرا لإحدى المخابز بتونس العاصمة. بطبيعة الحال كان ردّ الرئيس بأن ساعة حساب المحتكرين قد أذنت و أنه سيصدر بعض المراسيم لمحاسبة هذه المافيا . لكن يبقى نفس السؤال جاثما على الصدور و تبقى نفس الشكوك تحوم حول قدرة المراسيم أو حملات المراقبة على التصدي لهذا الورم الخبيث و هذه المنظومة القذرة التي تدير حملة منظمة و مقصودة و مسترسلة و معددة الوجوه لتجويع الشعب و إجباره على العصيان المدني و ربما الانجرار إلى حرب أهلية موتورة تستغلها بعض الأطراف الداخلية و الخارجية للإجهاز على ما تبقى قائما أو مترنحا من أجهزة و مؤسسات الدولة.
بقلم أحمد الحباسي
في الحقيقة لا يبدو أن الرئيس قادر على القضاء على منظومة التجويع رغم تصريحاته الإيجابية المتفائلة لأنه في السياسة ليست الأعمال بالنيّات.
الظاهر أن الشعب قد وقع هذه المرة بين كمّاشة منظومة الاحتكار و التجويع التي تقودها بعض لوبيات التهريب و بين أسلوب القرار الانفرادي للرئيس و ما يجمع الطرفان هو الصمت القاتل إذ تتحرك منظومة الاحتكار بفاعلية كبرى و بدون ضجيج يقابلها خطاب مكرر لم يعد يقنع حتى أكثر المقربين أو المتفائلين.
لعل المثير للانتباه أن الحكومة و رغم ارتفاع الأسعار و ندرة إن لم نقل خلّو المتاجر و المغازات من المواد الغذائية الأساسية لا تحرك ساكنا و تكتفي فقط ببعض الحملات العرضية التي أثبتت عدم جدواها في القضاء على آفة الاحتكار رغم حجز أطنان من المواد الأساسية.
لعبة القط و الفأر بين السلطة و منظومة الاحتكار
الثابت أن المواطن قد كره لعبة القط و الفأر بين السلطة و منظومة الاحتكار و بات موقنا بأن الرئيس قد فشل فشلا ذريعا في لعبة كسر العظام بينه و بين مافيا التهريب و الثابت أيضا أن حركة النهضة قد استطاعت استغلال الأيام الموالية لقرارات ليلة 25 جويلية 2021 التي اتسمت بارتباك خط سير الرئيس و عدم قدرته على تطويع الفرحة الشعبية ليجعلها سنده القوى و الفاعل في سرعة الإطاحة بالحركة.
لقد ردد الجميع أن الرئيس قد فقد توازنه بعد زلزال ليلة 25 جويلية و لم يدر كيف يتفاعل و يتعامل مع نتيجة ما سمى “بالانقلاب” و من المفيد اليوم أن نتساءل هل خطط الرئيس لتلك القرارات و هل كانت اللحظة هي اللحظة؟ هل أشرك الرئيس طاقمه الرئاسي المتخصص في اتخاذ تلك القرارات و هل استمع الرجل لبعض نصائح المحيطين به و هل قام بتقييم مسبق لتلك الخطوات و هل كان الرئيس متيقنا من نجاح خطته؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة و غيرها هو الكفيل بتقييم المرحلة المتردية الحالية و متى تمّ ترك الكلمة للشعب فربما سنشهد كلاما و تصرفا آخر لا يحبذه الرئيس.
لا يمكن للرئيس أن يعلن حربه الخاصة على منظومة الفساد دون تجميع صورة المشهد السياسي و الاجتماعي بل لا يجب للرئيس أن يغفل على فهم أن سقوط حركة النهضة ليس بالسهولة المنتظرة وهي تبقى قادرة بما زرعته من عملاء و متاريس بشرية داخل الإدارة و في بعض المنظمات الوطنية على توتير الأجواء و السلم الاجتماعية.
أغلب الطرق التي يسلكها الرئيس تؤدى إلى نفق مسدود
لعله من بين الملاحظات المهمة هذا الهجوم الإعلامي الذي تؤثثه قيادات حركة النهضة و على رأسهم تلك العناوين الآدمية المشبوهة التي زعمت انفصالها و انشقاقها من الحركة مثل سمير ديلو و عبد اللطيف المكي و صلاح الدين الجورشى و تتالى الدعوات لهذه القيادات من كثير من المنابر الإعلامية بما يوحى للمتابعين بأن هذه الحملات مدبرة و ممولة و أن مرور الحقائب المالية الخليجية لا يزال مستمرا ربما بطرق أخرى غير الطرق القديمة.
ما يلفت الانتباه تركيز هذه القيادات “المنشقة” على استهداف حملة الرئيس على المحتكرين مما يوحي بأن تصاعد الانتقادات الموجهة للسيد عبد المجيد الزار رئيس منظمة الفلاحين و اتهامه بكونه أحد الفاعلين فى تصاعد وتيرة الاحتكار قد خلقت تململا داخل الحركة دفعها لاستنفار رموزها. ويضاف إلى ذلك تصريح الشيخ راشد الغنوشي الذي اتهم الرئيس علانية بكونه المسؤول عن تدهور المقدرة الشرائية لكن مع ذلك لا تزال الأسئلة تتصارع حول الأسباب التي دعت الرئيس إلى عدم اتخاذ بعض القرارات المتعلقة بطلب بعض المعونات الغذائية من بعض الدول الصديقة و بيعها في أسواق منظمة يسهل مراقبتها لكسر شوكة الاحتكار و تعديل السوق و رفع معنويات المستهلك المنهارة.
سؤال آخر يتعلق بعدم انعكاس حجز كميات هائلة من البضاعة الاستهلاكية المهربة بحيث كان منتظرا أن يكون لضخ تلك المحجوزات فى السوق نتائج ملموسة على قفة المواطن و على قدرته الشرائية.
تونس ليست المدينة الفاضلة و لا الجنة المنشودة و أغلب الطرق التي يسلكها الرئيس إن لم نقل كلها توشك أن تؤدى إلى نفق مسدود لافتقار الرئيس الواضح للرؤية الإستراتيجية في تعامله مع كبريات المشاكل و الأزمات التي تمر بها البلاد. لعله من العجب أن يرى الرئيس حل مشكلة الاحتكار و التهريب في إصدار مراسيم تحتوى عقوبات رادعة و سالبة للحرية و لعل الأعجب أن يظن سيادته أن الحل في تحريك عجلة القضاء النائمة نوم أهل الكهف منذ سنوات لأن الحل كما يراه المتابعون ليس في الردع وحده بل في انتهاج سياسة فلاحية ناجعة و مدروسة تقوم على نظرة أساسها تحقيق الأمن الغذائي، الحل فى جلب الاستثمارات الفلاحية و تمكين الشباب من فرصة المشاركة في هذا المشروع بما يملكه من طاقات إبداعية و علمية و الحل يكمن في اعتماد حوكمة رشيدة في ميدان حفظ الإنتاج عند الوفرة بالتشجيع على بناء أكثر ما يمكن من مستودعات التخزين.
يبقى القول أن طريق مقاومة الاحتكار لا تتحقق بالنوايا الطيبة فقط.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك