يبدو أن منظمة الكشّافة التونسية قد انحرفت عن أهدافها التطوّعية و التربوية و التعليمية و الإنسانية التي جاءت من أجلها لتجد نفسها في أحابيل لا طائل منها سوى أنّها تملأ الفراغات على حساب الكُنه و الجوهر ماهي أسباب و تجليات هذا الانحراف ؟
بقلم ميلاد خالدي
يبدو أنّ واقع الكشّافة التونسية قد طرأ عليه الكثير في ظلّ تأثير التكنولوجيا و الأجهزة الرقمية على نمط الحياة و كيفية تلقّي المعلومة و ممارسة النشاط الكشفي. في هذا الشأن، كانت لي الفرصة أن أحضر تظاهرتين للكشّافة التونسية في مركز التخييم بدوز من ولاية قبلي و مركز التخييم والاصطياف ببرقو من ولاية سليانة. ما لفت انتباهي فعلا هو انحراف الكشّافة التونسية عن أهدافها التطوّعية و التربوية و التعليمية و الإنسانية التي جاءت من أجلها لتجد نفسها في أحابيل لا طائل منها سوى أنّها تملأ الفراغات على حساب الكُنه و الجوهر.
الكشّافة التونسية والشبل المتديّن
من السداد بمكان أنّ من مبادئ الكشّافة التونسية هو أداء الواجب تجاه الله، تجاه الآخرين وتجاه الذات. حيث من المفروض تقديم الواجب تجاه الذات على الواجب تجاه الآخرين. فصلاح الذات يسبق صلاح البلاد بالضرورة. بان بالكاشف أنّ فوج الكشّافة الذي شارك في مدينة دوز قد طغى على أنشطته المنحى الديني الصرف على حساب الاشتغال على الذات خدمة للمجتمع. لا سيّما إذا اعتبرنا أنّ الكشّافة هي فعل جمعياتي تطوعي بامتياز وليس دمغجة دينية من خلال ترتيل أناشيد و ابتهالات نحو السّماء وكأنّنا في حلقات تضرّع وتبرّك. فالأناشيد الوطنية حتى وإن ظهرت فوجودها ظلّ هامشيا و غير مرجعي. يكمن المشكل في أنّنا خلطنا الأوراق و أضعنا اتّجاه ‘لكلّ مقام مقال’، حتى وإن كان هناك جانبا دينيا فيجب أن يكون مُدرجا على نحو معاملاتي مدني سلوكي ضمن تحرّكات المجتمع الضيّق المتمثّل في الوفد المرافق و المجتمع الكبير المتجسّد في المدرسة و الشّارع و الادارة.
ما عاينته هو التغيّر الجوهري للكشّافة عكس ما ترسّخ لدينا منذ الصغر… أنشطة الكشافة هي تنمية الحسّ المدني و الوازع التطوّعي و المبادرة الجمعياتية، ناهيك عن ممارسة أنشطة رياضية لتفعيل مقولة العقل السليم في الجسم السليم. الكشّافة التونسية هي اسم على مسمّى. اكتشاف ما تبقّى من الجغرافيا و المواهب الصاعدة و القوى الكامنة في كلّ شِبل. هي تنمية قيم الصبر والاعتماد على الذات و رباطة الجأش، حين تستقّل عن محيطك العائلي كي تعرف السبيل نحو التعويل على مُقدّرات ذاتك .
الكشّافة التونسية و العقد المُنفرط
أظنّ أنّ الكشّافة التونسية فقدت في الآونة الأخيرة بوصلتها و انفرط عقد طريقها …فقد أصبحت ذلك المايسترو الذي يريد أن يرقص لكنّه يريد أن يحافظ على ثباته ووقاره كي يُكمل العرض دون اضطراب، لكنّه في الحقيقة يتعثّر في زيّه الرسمي ليفقد بذلك كلّ شيء في النهاية. الكشّافة التي تُحرّكها الايديولوجية الدينية لا تثمر حتى وإن أثمرت فإنّها ستُثمر التطرّف و الأُحادية في التفكير و ردّة الفعل.
تمنّينا لو أنّ وفود الكشّافة سارت على ما جاء به الأوّلون، لا ما يُقدم عليه القادة الحاليون. أن تكون قائدا للكشّافة هو أن تكون مُلمّا بأساليب التواصل، ماهرا في تمرير الرسائل دون أن أُشعرك أنّي قمت بذلك، أن تُعلّمني كيف أتحكّم في مفاصل جسدي و مسرحة ركح حركاتي، أن تُلهمني السرّ في خدمة الانسانية، أن تجعلني أنسحب قليلا ثم كثيرا من الهاتف الذكّي و اللوحات الرقمية، أن تنصُب لي شراكا ثم تتوارى كي يتسنّى لي اللجوء إلى عقلي و مدارك عقلي و حيل عقلي. أن أخلّص نفسي بنفسي هو أن أرفع لك قبّعة شكري و امتناني. فليس الأمر بالمفيد أن تعطيني مشكلا ثم تسارع و تُجهّز لي الحلّ.
وفد الكشّافة الذي كان حاضرا بالمركز التخييمي و الاصطياف ببرقو من ولاية سليانة لا يختلف كثيرا عمّا شاهدته بمركز التخييم بدوز، فالفارق الوحيد هو في الشكل أمّا المضمون فهما سيّان. مشاركون يردّدون أغاني ركيكة كجزء من فقرات برنامجهم لا تمُتّ لأهداف الكشافة بصلة. القاء الفضلات في الطبيعة كيفما اتفق هو سلوك غريب و مُشين لا يُشرّف المنتسبين للكشّافة كهيكل جمعياتي مُنظّم. يُقال حين تفسد القيادة تفسد معها القاعدة، يعني من الأفضل مراجعة دواليب القيادة الكشفية في تونس و كيفية اشتغالها و تدرّجها و المحتوى التعليمي الذي تقدّمه فضلا عن تغيير القوانين البالية التي تحكمها منذ عشرات السنين. لا يفوتني أن أنوّه بمقولة بادن بول مؤسس الحركة الكشفية في العالم “إنّ مهمتنا ليست فقط الحفاظ على الموجودين بالفعل وإنّما إخراج الكثيرين من الكشّافين لممارسة الحياة بشكل مُنظّم…” هذا هو مربط الفرس من النشاط الكشفي، ممارسة الحياة بشكل مُنظّم فيه الكثير من الرُقيّ و التحضّر والاستقلالية والانسانية و التطوّر.
كاتب.
شارك رأيك