لا شك أنّ المشهد السياسي الحالي في تونس يعكس صورة سيئة وقاتمة عن بلادنا. و لم تعد الكلمات تعكس معانيها فقد اهتزّت منظومة المعاني وبعبارة أخرى نحن نعيش زمن خيبة أمل في المشروع الوطني.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
إنّ تاريخ دولة الاستقلال في تونس معلوم بما فيه الكفاية، ولكن ربما نحتاج اليوم للتذكير بالبعض من خطوطه الكبرى التي مكّنت زعماء الحزب الدستوري الجديد بداية من الثلاثينات من القرن العشرين من انتزاع الزعامة السياسية من “الأعيان” و “القبائل”، لفائدة النخب الوطنية الصاعدة لكي تؤطر الجماهير وتوجه حركتها استنادا إلى مبدئي “العقلنة” و “الحرية”.
لقد كان هناك تصور لدى الزعماء للمجتمع التونسي في ذلك التاريخ وللطريقة المرحلية التي ارتأوها لتنظيمه، تصورٌ مُنتهجٌ منذ خير الدين باشا إلى الحبيب بورقيبة مرورا بالطاهر الحداد.
انهاء حالة الشتات وتثبيت مركزية السلطة
لا أحد ينكر أنّ الشعب التونسي كان مشتّتا قبل الاستقلال، ليس جغرافيا واقتصاديا فحسب، وإنما ثقافيا أيضا. لذلك يجد المتأمل في تركيبته كلّ من البدو والعرب الرحّل والحضر ” البَلْدِيَّة”، وبين هذه الفئات اختلاف في النفسيات والعقليات.
لقد استندت الجماعات الداخلية في تحديد انتمائها إلى مرجعيات متداخلة. فهناك المستوى الأدنى الذي يتماهى مع “المدينة” أو “العرش” ومستوى أعلى يجعل هذه المجموعات ترى نفسها جزءًا من “برّ الإسلام”، وفيما بينها يمثل الانتماء إلى الإيالة التونسية واحدا منها. وليس غريبا أن يغذّي الاستعمار هذا التعدد في الانتماءات مستغلا هياكل “العروشية” و”الأعيان”، لبناء التركيز الإداري الكولونيالي.
ظهر أوّل تجمّع مركزي للشعب التونسي حول الحركة الوطنية انطلاقا من الثلاثينات إلى الخمسينات وعبر هذا التجمع تمت تذكية “الهوية” التونسية التي صارت قاسما مشتركا. وعلى هذا المكسب بنت دولة الاستقلال مجهوداتها لتوحيد التونسيين وإيقاف تيّار الفُرقة. ذ
لقد كان الحبيب بورقيبة شاعرا بخطر ذلك الواقع القديم على البلاد فسارع بتجميع السلط والاتجاهات في مركز سياسي “الحكومة المركزية”، وأحدث نظام الولاة وحذف القِيَادَاتْ (بـالقاف البدوية). ولقد كانت هذه الخيارات صائبة بقدر التقائها مع الواقع في تلك الحقبة. فقد تضافرت العوامل التاريخية والمجتمعية لتطور الوعي الوطني والالتحام الاجتماعي النسبي زمن الاستعمار، ومن ذلك ظهور نظام يتمحور حول الحزب الواحد، الذي قام بدوره في قيادة تحرير البلاد وبناء الدولة ذات الاتجاه الوطني، كما حاول مجابهة معركة التنمية بالإمكانيات المتاحة.
كان على الدولة في نفس السياق بناءً على التفاوت القائم بين المناطق أن تختار بين وضع تعليم متأقلم مع واقع كل جهة وبين تعليم موحّد. واختارت الخيار الثاني لأنّ ظروف التلاميذ تختلف من منطقة إلى أخرى ولأن الهدف الأول كان توحيد التونسيين وإعداد جيل متمتع بنفس التكوين وبنفس الأيديولوجيا والهيكلية الذهنية.
لم يكن ذلك سهلا أمام الصراع الخفي والعلني القائم بين المدرّسين الذين تلقوا تعليما حديثا والزيتونيين. هكذا أُرجعت الزيتونة إلى وظيفتها ككلية دينية وليست تعليمية وتوحد التعليم ومن خلاله توحدت الأرضية لتوحيد الشعب.
أخطاء ما بعد 2011 عمقت الفجوة بين السياسة والمجتمع
إنّ نظرة الفرد إلى السياسة اليوم نظرة موروثة لم تساعد للأسف في تطوير المجتمع وتحويله إلى مجتمع سياسي بالمعنى الدقيق. لقد عمقت التجاوزات والأخطاء لانعدام الخبرة والكفاءة بعد 2011 الفجوة بين السياسة والمجتمع المدني، و بين السلطة و النفوذ المادي أو الأدبي، وبين الدولة والفرد. هناك مؤشرات عديدة تدلّ على أنّ الرأي العام قد غيّر تصوره للنخبة السياسية. فالانطباع السائد بعد تفاقم المشاكل السياسية والإنمائية هو أنّ السياسيين في الحقيقة يعيشون من السياسة أكثر مما يعيشون من أجلها، على حدّ تعبير ماكس فيبر.
ومن الواضح أنه لا مكان للثقافة السياسية لدينا لاحترام الآخر، فالنزعة السائدة عنيفة ومتسمة بالبداوة وتكاد تكون “متخلفة” مع ميل لاحتكار السلطة كلما أمكن ذلك لخدمة مصالحها. هناك قلق وبحث عن الاستقرار والإرشاد عبر قنوات بديلة.. آمل أن لا يؤدي إلى عودة “المخزن والقبيلة”.
المطلوب اليوم ليس بيانات أو خطب خارج السياق بل رصانة وتأمل بجدّ وأناة في حصيلة “العشرية الماضية البائسة”، والابتعاد عن الإتيان بحلول ناجزة، إذ الاستعجال طوبوية تفتح الباب إلى الفوضى التي هي عقيمة سياسيا واجتماعيا. لم تعد البلاد تحتمل “رؤى مستحدثة” بل تحتاج الى تنويع الأسئلة ووجهات النظر ووضع الأجوبة عليها في إطار علاقات قيم التقليد بقيم الحداثة أولا، وثانيا في إطار علاقة النفوذ الشخصي المباشر بالنفوذ عن طريق التنظيم.
هناك سياقات ضيقة مشوبة بهوس السلطة، وهناك ارباك واضح في اتخاذ القرار ومعالجة الوضع. وفي هذا مساس مباشر وغير مباشر بهيبة الدولة وتزايد احتمال استهدافها داخليا وخارجيا وسقوطها – لا قدّر الله – من جديد في يد فرد أو جماعة لتتراجع من مُعقلنة نسبيا إلى دولة متسلطة، ويصبح جهاز السلطة وسيلة تستعملها جماعة معيّنة لتحقيق أهداف خاصة بها.
لا شك أنّ المشهد السياسي الحالي يعكس صورة سيئة وقاتمة عن تونس. لم تعد الكلمات تعكس معانيها فقد اهتزّت منظومة المعاني وبعبارة أخرى نحن نعيش زمن خيبة أمل في المشروع الوطني.
ضابط سابق في سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك