أنباء تونس-سنيا البرينصي
ما يزال الجدل قائما حول مسلسل “براءة” لسامي الفهري الذي أسال الكثير من الحبر بين مندد بهذا العمل معتبرا أنه يمس بالثوابت المجتمعية لبلادنا ولا يعكس حقيقة المجتمع التونسي، في حين يعتبر البعض الاخر أن “براءة” كشف وعرى المستور ونسف دون هوادة وبالكامل الغطاء “الاجتماعي والأخلاقي” “المنافق ” المحيط بكافة التابوهات الحارقة الموجودة داخل المجتمع التونسي الذي لا يخلو من الظواهر التي طرحها المسلسل على غرار الزواج العرفي والزنا والخيانة الزوجية والاتجار بالدين والاتجار بالبشر ودمغجة الأطفال نحو التطرف وشحنهم، وهم الأبرياء, ب “حقن دينية” مسمومة والشعوذة والتفكك الأسري وطغيان، بل تجذر المفاهيم “الأبوية” و “الذكورية” وخنوع فئة كبيرة من النساء لسطوة وهيمنة الرجل “المنفق” عليهن و”المتحكم” -بإنفاقه- بمصيرهن وتفشي النفاق الاجتماعي والفساد بكل أنواعه.
“براءة” سامي الفهري لا شيء فيه بريء سوى الطفل “إسلام” الذي شد الانتباه على امتداد حلقات المسلسل، وخاصة في الحلقة الأخيرة، وفي رأينا هي حلقة قد تنوء بحمل وجعها الجبال فما بالك بطفل الخمس سنوات؟.
الطفل “إسلام” هو صورة مصغرة لما تعانيه الطفولة في مجتمعنا، طبعا دون تعميم، من ضياع واستغلال وتوظيف وتدمير نفسي وفكري وذهني واجتماعي وأخلاقي بسبب التفكك الأسري واستقالة بعض الأسر من ممارسة أدوارها الطبيعية بل “المقدسة” في تربية أجيال سوية وسليمة، وبسبب تأثيرات المحيط الخارجي الذي لا يخلو بدوره من كل أدوات التخريب, سواء بوعي أو دونه، لنفسية الطفل ومستقبله، ولعل المتعمن في ثنايا وواقع مجتمعنا يعلم جيدا أن الطفولة في تونس ربما أصبحت مهددة بالضياع، وعلى سبيل الذكر لا الحصر وحتى لا تنسى ذاكرتنا الجمعية أطفال “مدرسة الرقاب” ذات وجع أو الأطفال الذين يتم استغلالهم في التسول وفي الإجرام أويتم استغلالهم اقتصاديا وجنسيا، ومن يرى عكس ذلك عليه أن يقوم بجولة صغيرة في أحياء وشوارع البلاد أو يطلع على إحصائيات الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر وسيصدم ببشاعة هذه الحقيقة ومرارتها.
مواجهة “المرآة” بوجه مكشوف ودون مساحيق
“براءة” سامي الفهري جعلنا- كتونسيين- ننظر إلى حقيقتنا ونواجه المرأة وجها لوجه بل بوجه مكشوف ودون مساحيق وأزاح الستار “المنمق” و”المزوق” و”الكاذب” عن كل تلك “الكليشيهات” الاجتماعية “الموبوءة” المتفشية في مجتمعنا، فهذا “وناس” “المتدين” زيفا وبهتانا و”المتاجر” بدينه و”الجاهل” به أصلا لا يتوانى في إهانة واستعباد زوجته “الشرعية” ورفيقه عمره “زهرة” ولا يتوانى في إشباع شهواته الذكورية والشبقية المريضة ب “الزواج العرفي” من فتاة (بية) بعمر ابنته عبر “شراءها” و”شراء” عائلتها بماله وجاهه فالمرأة لدى “وناس” مجرد متاع و “سلعة جنسية” تباع وتشرى في سوق النخاسة-أسواق العبيد- وهو لا يتوانى مرة أخرى في محاولة “الزواج العرفي” من حبيبة ابنه (حنين) وهي كذلك في عمر ابنته، دون نسيان مدى “السقوط” المدوي لعائلة هذه الأخيرة التي تجرأت على التورط في عملية “بيع” ابنتها وطالبت “دون خجل” بالثمن، ويبقى السؤال هل هذه الظواهر موجودة فعلا في مجتمعنا؟ بلى يؤكد مراقبون وتجيب على ذلك إحصائيات المحاكم التي باشرت خلال العشرية الماضية العديد من قضايا ما يسمى ب”الزواج العرفي”، بلى هذا النوع من “الزواج” موجود في مجتمعنا وكذلك ذلك النوع من “العائلات” التي “تبيع” بناتها لرجال ميسورين، لكن من الأكيد أنه لا يجب التعميم فليس كل مجتمعنا كذلك بل مجتمعنا أرقى بكثير وحتما الشخصيات الدرامية المذكورة لا تمثل كل التونسيين.
شخصيات درامية “بشعة” وكلهم مذنبون
“وناس” الشخصية التي أبدع الممثل فتحي الهداوي في تقمصها ولبسها لباسا وبرغم بشاعة هذه الشخصية الدرامية فهو ليس “المذنب” أو “السيء” الوحيد في هذا العمل بل كل الشخصيات المحيطة به والتي دارت في فلكه دراميا هي شخصيات “مذنبة” ومفرطة في البشاعة، فهذه زوجته “زهرة”، التي أبدعت في تقمص شخصيتها الممثلة ريم الرياحي، ترضى بإهانتها واستعبادها من طرف زوجها حتى لا تخسر “اللقمة” و”مكاسبها” الأخرى وحتى تحافظ على أسرة غير موجودة أصلا في المفهوم الحقيقي لمعنى الأسرة.
“زهرة” الزوجة الخانعة الذليلة المتحكم في مصيرها من طرف زوج “فاسد” و”مستبد” والتي تلجأ إلى الشعوذة لتحافظ على مكاسبها ولتنجو- وفق تفكيرها- من “الغرق”.. ألا تعبر هذه الشخصية عن واقع عدد من النساء في مجتمعنا ما زلن إلى يومنا هذا يرزحن تحت سيطرة وظلم واستعباد الزوج حتى لا يجدن أنفسهن في الشارع بحكم أنهن غير متعلمات ولا يعملن؟ نتساءل ونمر..
“زهرة”- وإن كانت لا تعبر بشكل كامل عن المرأة التونسية المثقفة الرائدة القوية المتعلمة والمتحضرة- إلا أنها صورة مصغرة لبعض النساء في مجتمعنا ممن لا حول ولا قوة لهن أمام سطوة الزوج أو الأب أو الأخ أو الابن.
باقي الشخصيات الأخرى في المسلسل تنوء هي أيضا ب”ذنوبها الفظيعة” فلا أحد “بريء” في هذا العمل، فهذه “بية” التي تفرط في حبيبها الشاب سائق “التاكسي” لتقبل ب “الزواج العرفي” من مسن في عمر أبيها من أجل ماله وجاهه ومن أجل أن تغادر واقع الفقر الذي تعيشه دون رجعة، أو هكذا خيل لها، وهذه “حنين” لا تختلف عنها كثيرا، وإن حاولت المقاومة، وهذه أم “حنين” لا تختلف كثيرا عن والدها في “البشاعة”.
وهذه زوجة شهيد وطني تدخل في متاهة نفسية صعبة بسبب فقدان زوجها ويتم استغلالها واغتصابها من طرف جار “فاسد” في غياب كل رعاية أو إحاطة ممكنة من عائلتها أو من المجتمع.
وبين هذا وذاك الجارة والصديقة زوجة “المغتصب” التي تقبل بخيانة زوجها وتحاول إيجاد الحلول لتنجيه مما علق به من “وحل”، وهناك تقف “شيراز” الفتاة المتخرجة من الجامعة وسليلة العائلة المثقفة تترجى الزواج من صديقها “طلال” الذي لم يكمل تعليمه والعاطل عن العمل و”الفاشل” نفسيا وعائليا ومهنيا واجتماعيا لأنها ربما رأت فيه “عريسا جاهزا، وهي صورة مظلمة تعكس واقعنا للأسف، أجل واقعنا يثبت أن الكثير من الجامعيات والمثقفات والمتعلمات تزوجن بأزواج لم يدخلوا يوما إلى مدارج الجامعة وربما حتى المدرسة، لا لشيء سوى حتى لا يفوتهن “قطار” الزواج “السعيد” أو يصنفهن المجتمع “الظالم” “عوانس”.
سقطات مضامينية وشكلية
في المحصلة، مسلسل “براءة” وإن لا يجب سحب وتعميم مضامينه على عموم مجتمعنا أو أي مجتمع في العموم، إلا أنه يمكن القول أنه عرى العديد من الظواهر الموجودة والتي تعد من الخطوط الحمراء لاعتبارات “أخلاقية” و “اجتماعية” أقل ما يقال عنها زائفة، لكن في المقابل تضمن هذا العمل العديد من مكامن الضعف والخلل لأنه طرح المضامين وعرى هذه الظواهر دون نقدها أو طرح حلول لها أو طرح سبل واليات لمعالجتها، فمن الأهداف السامية للدراما وللفن عموما التوعية ونشر قيم الفضيلة والقيم السامية من أجل المحافظة على مجتمع سليم.. دون ذلك يصبح طرح مثل هذه الظواهر، أو هكذا على الأقل يفهم، محاولة ل “التطبيع” معها واعتبارها من “الأمر الواقع” وهذه سقطة كبرى من سقطات هذا العمل.
من سقطات هذا العمل كذلك إيغاله في إبراز صورة قاتمة بل حالكة السواد والسلبية للمجتمع فكل الشخصيات الدرامية في هذا العمل هي فعلا “درامية” وهي شخصيات “معقدة” و”مريضة” و”سيئة” و”فاشلة” وموغلة في “الفظاعة” بل في “السقوط”، صحيح أن هذا العمل من وحي خيال كاتبه، لكن تمهل أيها السيناريست وأيها المخرج..برغم ذلك..هذه ليست تونس..
ضعف سيناريو رهيب والتميز لفتحي الهداوي وريم الرياحي وعزة سليمان والطفل عزيز
أما من الناحية الشكلية، فيمكن اعتبار ضعف وضحالة السيناريو وغياب “العقدة” أو الحبكة القصصية وعدم تماسكها وتسلسلها، إضافة إلى حشو ذهن المشاهد بأكثر من قصة وأكثر من موضوع في الحلقة الواحدة من أكبر سقطات “براءة” رغم قيمة ما طرحه من مضامين.
كذلك، ورغم الحضور الطاغي والأداء المميز جدا للممثلين فتحي الهداوي وريم الرياحي وعزة سليمان والطفل عزيز زوبلي، فإن أداء باقي الممثلين كان متوسطا إن لم نقل باهتا.
شارك رأيك