تونس : من أثقال الفساد إلى العفن السياسي

يستطيع أيّ متابع للأوضاع بتونس أن يلحظ تزايد حدّة الصراع على النفوذ الاجتماعي والسياسي. وبمعزل عن لغة البيانات والتصريحات ومستوى النقاشات الجارية، تسود الشارع حالة من الترقّب والإحباط والشعور بالحاجة لحلّ الأزمة وانهاء الاحتقان. لقد بلغ “الإنهاك” و “الارباك” و”تراجع إنفاذ القوانين” درجات ملفتة، ومهدّدة بضرب البنية التحتية للدولة بكاملها. هناك حاجة لفهم ما يجرى ووضع الأحداث في سياقها التاريخي.

بقلم العقيد محسن بن عيسى

الدولة ليست “عصابات نخبة أو مافيا” تتوارث الزعامات على أساس القرابة والصداقة وتتعاطى كل أشكال التجاوزات وانتهاك القانون. كما أنها ليست “عائلة”، تقوم على رابطة الدم وحكم شيخ وتوزيع مصالح في نطاق داخلي

عشر سنوات هزت البلاد

هناك ما يقارب عن مائة وخمسين تعريفا للدولة حسب المختصين وأبرز أحكامها القيميّة أنها “تجسيد لأسمَى فكرة أخلاقية”، وأبرز الحقائق التي تنطوي عليها أنها “بناء” تحكمه مجموعة من القواعد المُقنّنة، وهي نظريا على الأقل أعلى هياكل القوة في المجتمع. وبناءً على ذلك فالفرق واضح بينها وبين الأحزاب والنقابات وبقية المنظمات غير الحكومية التي تمارس شكلا آخر من النشاط عبر المشاركة في اتخاذ القرار وتوزيع الثروة والتأثير في السلوك العام.

للأسف أن حلقات الانتهازية والفساد تجاوزت هذه المفاهيم والحدود بشكل علني ومن وراء ستار، ومارست السياسة بلا قواعد ولا ضمير ولا وازع أخلاقي، مُطلقة أدواتها الدينية والمالية والإعلامية والسياسية لاتخاذ ما استطاعت من أفعال ودسائس لتحقيق أهدافها. لقد استغلت محدودية وعي الطبقة الشعبية، قاعدة ورموزا، بأساسيات الدولة المدنية.

لا يمكن لأحد أن يجادل في أنّ العشرية الماضية أنتجت اختلالات بُنيوية في الجسد التونسي، كما شوّهت صورة الدولة في الخارج وأخطر ما تركته هو تأسيس مسارات طغت عليها ولاءات مشبوهة لجهات أجنبية.

لقد خيّبت “نخب الصدفة” و “الطفيليات السياسية” الآمال حيث جعلت البلاد عبئا على المجتمع الدولي فهي التي تسبّبت في افلاسها وتفقير شعبها وتجهيله وهي التي جعلت “تونس الخضراء” “بؤرة سوداء” في نظر العالم تـُصدّر الإرهاب والجريمة ومنها تنطلق قوارب الموت.

وللسياسة رجال وأقلام؟

كنت اتصوّر أنّ النخب الصاعدة، ستكون حافظة لإرث الدولة بكل معانيه وبانيةً عليه وليس تخريبه. لقد عرفت دولة الاستقلال الحديثة “الاعتراف والتأييد والاعتزاز” داخليا، والاعتبار خارجيا بالرغم من محاولات “مقاومة سلطة الدولة” آخر الحقبة البورقيبية وخلال حقبة بن علي. هناك حنين لاستعادة الدولة والعودة لمسارها التاريخي، ومكانتها، وعلاقاتها، واشعاعها.

لقد عرفت تونس تراجع مشروع بناء الدولة الحديثة عند شيخوخة الزعيم بورقيبة ولمصلحة مشروع حكم بن علي الذي فرضته الظروف وليس الخيارات الاستراتيجية، وجرى التفكير للبحث عن شكل مقبول من التوافق التاريخي بين النظامين لإعطاء مزيد من الاعتبار للمجتمع ودوره، وحماية مشروع الدولة الحديثة التي خضعت للسلطة المهيمنة.

انحرف الاتجاه لنجد كثيرا من المثقفين والسياسيين يتداولون قضايا المجتمع ويتحركون في كل اتجاه للمزيد من المكاسب والمصالح وزيادة الثروة والنفوذ عند أصحاب القرار. وسقط النظام لأنه حمل في طياته نفاقا اجتماعيا وخللا في السلوك فيما يقول وما يفعل على أرض الواقع. وعاشت البلاد نفس السيناريو مع منظومة 2011 حتى 25 جويلية هذا التاريخ الذي يبدو أنه المنطلق الإصلاحي الجديد بين ظفرين.

لقد تحدّث بورقيبة رحمه الله عن الانحرافات وخاصة احتمال خيانة تونس من طرف البعض من أبنائها، وحمّل هذه الفئة مسؤوليتها التاريخية، منوّها بقيمة ما تحقّق بفضل وطنية التونسيين والتونسيات، ومُبيّنا أن تونس لم تنل استقلالها عن طريق استفتاء بـ “نعم أو لا” مثل بعض الدول الافريقية، ولا عن طريق تخلٍّ تلقائي عن الأرض من طرف القوى الاستعمارية مثلما حدث لفائدة بعض العشائر العربية ودون كفاح.

لقد عرفت البلاد النضال السياسي وتبعه الكفاح المسلّح، وعاش خلالهما الشعب معاناة كبيرة من جنوب البلاد إلى شمالها. وتمكنت بفضل حكمة زعمائها من النهوض لتصبح قبلة سياحية ورياضية وعلمية واستشفائية، وتميّزت بكلمة مسموعة في السياسة الخارجية والمحافل الدولية.

منذ زمن بعيد، يردّد الفقهاء “لا حكم إلاّ للشعب”، كما كان الأقدمون يردّدون “لا حكم إلاّ لله”، ولكن جميعهم تقريبا لم يقدّموا ردّا مقنعا. ولم تحقق في نفس السياق وثيقة بيروت الصادرة في 22 مارس سنة 2004 والمتعلقة بحق كل شعوب دول الجامعة العربية في التمتع بأنظمة تمثيلية مدنية يكون فيها الشعب هو مصدر السلطات أهدافها. ويبدو أنّ ما نسمعه خلال هذه الفترة هو رجع الصدى.

لا شك أنّ المشتغلين بالسياسة لديهم اطلاع على ما يدور بالبلاد، والمؤلم ماذا فعلنا، ما الذي تفعله النخب المثقفة سوى الحديث الجانبي ثم تنتهي الأمور. الدولة تتحرك في الوقت الضائع، ولا يمكن أن تبقى الأمور على ما هي عليه.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.