أعلن القضاة المضربون بكثير من السرور و الزهو و الخيلاء ما سموه عبثا بنجاح إضرابهم عن العمل. في حقيقة الأمر لم يكن الموقف و لا التصرف مفاجئا من قوم لم نتعود منهم إلا المواقف الرديئة الخائبة التي لا تليق بمقامهم الرفيع و في الواقع لم ينتبه هؤلاء المضربون أن هذا التصرف قد أفقدهم هذه المرة ما تبقى من ذرة تقدير ممكنة لدى الرأي العام في تونس.
بقلم أحمد الحباسي
لعل هناك حقيقة يقفزعليها البعض رغم أهميتها و هذه الحقيقة تقول أن السادة المضربين قد قاموا بهذا الإضراب الوحشي غير المبرر مع يقينهم الراسخ أنه لا يحظى بأية شعبية أو تعاطف أو مساندة من طرف عموم المواطنين لكن من الواضح أن الالتجاء إلى هذا الموقف الانتحاري قد فرضته مجموعة شعرت باهتزاز موقفها و افتضاح أمررها فقررت العمل بالمقولة الشهيرة “على و على أعدائي”.
القضاة الفاسدون و المنتفعون بالتبعية و الأغلبية الصامتة
قطاع القضاء فاسد و يتطلب التطهير… هذا القول لا يختلف عليه اثنان و عملية تطهير القضاء معقدة و تحتاج إلى كثير من الحنكة و الرصانة و الصبر. هذا أيضا لا خلاف عليه. لكن من الواضح أن المنظومة القضائية كغيرها من المنظومات مقسمة إلى أقسام متعددة، قسم الفاسدين، قسم المنتفعين بالتبعية و قسم الأغلبية الصامتة على الفساد و لكل منهم أسبابه.
من الواضح أيضا أن منظومة القضاة الفاسدين هي المسيطرة على كامل القطاع وهي التي تتحكم في كل الدواليب بحيث باتت الأغلبية مجرد رهائن بلا حول و لا قوة .
من الواجب أيضا أن نشير إلى أن صدور بعض التصريحات عن بعض القضاة مثل القاضية السابقة السيدة كلثوم كنّو و التي تفضح فيها حالات الفساد هي مجرد تصريحات مشبوهة و متقلبة بدليل سرعة انفعال هذه السيدة ضد قرارات الرئيس قيس سعيد الأخيرة بتعلّة أنها تدخل في الشأن القضائي وهي كلمة حق دائما ما أريد بها باطل.
لماذا أسقط الرئيس سيف دمقلاس على بعض القضاة و لم يبحث في تقديم مشروع متكامل لتطهير القضاء وهل كان الرئيس مدركا للفوضى الجدلية و لما سيسيل من حبر حين اتخذ مرسوم العزل رغم هنّاته الكثيرة و هل غفل سيادته على أن قراره سيعطى الفرصة لهؤلاء المعزولين بإثارة الرأي العام الداخلي و الخارجي حول طرح منافق أسمه “عدم التدخل في شؤون القضاء” ؟
هل أقدم الرئيس على فرض إرادته دون الانتباه إلى وقع خطواته المرتعشة على مصلحة المتقاضين و هل يمكن اليوم لكل متضرر من الخطوة الرئاسية أن يسعى إلى جبر ضرره قضائيا وهل يمكن للمحاكم التونسية أن تقضى بجبر الضرر لكل من تضرر من إضراب القضاة؟
هذه بعض الأسئلة التي فرضتها الأحداث لكن من الواضح أن الأمر هذه المرة لا يتعلق بطريقة العزل و لا بهيبة القضاء و لا بإرادة تطهيره من نفسه بل هذه معركة كسر عظم بين رئيس منقلب على الدستور و منظومة قضائية تدافع عن الفساد حتى لو سقط المعبد على الجميع.
شعارات كاذبة ومنافقة تردد للاستهلاك المحلي و الخارجي
لعل إطلاق الشعارات هي السمة الغالبة بين خطب الرئيس و تصريحات رجال القضاء و لكن لنتفق أولا أنه ليس هناك من القضاة من يريد أو يبحث أو يسعى لتطهير القضاء فهذا شعار منافق يردده الكثيرون للاستهلاك المحلي فالسلطة تريد تدجين القضاء و استعماله للقضاء على خصومها السياسيين أو لخدمة بعض الأغراض الانتهازية الأخرى و المنظومة القضائية تدرك أنه من حقها أن تستجير بالسلطة لنيل المغانم و المكاسب و لذلك فمن المستحيل أن تجد محاولة جدية وحيدة قام بها القضاة لتطهير القضاء من الفاسدين.
يؤكد رئيس جمعية القضاة السيد أنس الحمايدي هذا الطرح معبرا على أن الفساد قد استشرى و أن القضاة الفاسدين معروفون بالاسم و أن التفقدية العامة لوزارة العدل هي من ترفض إحالة ملفات القضاة الفاسدين و تتستر على بعض الملفات المتعلقة بأعضاء التفقدية أنفسهم.
يضيف السيد أنس الحمايدي في تصريحه في إذاعة موزاييك يوم 21/10/2021 أن التفقدية العامة للقضاة تلعب في دور قذر للتغطية على الفساد و الفاسدين و يدعو لإصلاح مؤسسات القضاء لكن لعله من المفارقات العجيبة أن القاضي المذكور هو محل اتهام من طرف هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي حول ما وصفه الأستاذ رضا الرداوي بماضيه المشبوه في ملفات الحوض المنجمي في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
اختطاف القضاء كمرفق عمومي للابتزاز و استعباد المتقاضين
ماذا يعنى الإضراب الأخير للقضاة؟ لعل أول الملاحظات أن الإضراب قد فشل فشلا ذريعا لدى الرأي العام و لعل المتقاضى قد شعر بالإهانة و الحقرة وبات يرى في صورة القاضي شخصا انتهازيا متسلطا لا يبحث إلا عن مصلحته الشخصية الضيقة و أن هناك حالة من اختطاف القضاء كمرفق عمومي للابتزاز و استعباد المتقاضين و جعلهم موضع مساومة بين هذه المنظومة التي نخرها الفساد و سلطة رعناء غير قادرة على حسن إدارة شؤون البلاد.
لماذا لم يقدم القضاة مشروعا مقبولا لتطهير القضاء بدل الاكتفاء ببعض التصريحات الهوجاء التي أدرك الجميع عدم صدقيتها؟ لماذا جمع الإضراب الفاسد و “النظيف” في سلّة واحدة و لماذا لا تزال الأغلبية النظيفة متشبثة بتلابيب فئة فاسدة أضرت بسمعة القضاء و دفعتها إلى الحضيض؟ هل من حق الرئيس إعفاء القضاة المتهمين بالفساد قبل إحالة ملفاتهم على العدالة و لماذا ترفض الهيئات القضائية الإسراع في البت في هذه الملفات؟ إلى متى سيظل المتقاضي أسيرا لنزوات السلطة و نزوات قضاتها؟
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك